هل أخطأ الشّيخ العزّونيّ؟

أثارت كلمة للأستاذ موسى العزّوني –وفّقه الله- تتعلّق بتزويج الشّاب الفقير غير القادر على توفير سكن لزوجته، لغطا كبيرا في وسائل التواصل الاجتماعيّ، على عادة المسائل والقضايا التي تلتصق بواقع النّاس وتلامس همومهم المتعلقة بواقعهم الصّعب، حيث أفتى الشّيخ بأنّ وليّ الفتاة من حقّه أن يرفض تزويج موليته لشابّ لا تسمح ظروفه المادية بتوفير سكن لزوجته، وفي المقابل تتابع رواد مواقع التواصل على شجب هذه الفتوى واستنكارها، لأنّها –حسبهم- تزيد الطين بلّة والعنوسة استشراءً والشّباب معاناة.
إذا بدأنا بالنّظر إلى حال المنخرطين في حملة الشّجب والاستنكار، فلعلّ أكثر ما يسترعي انتباهنا أنّ بينهم “قوما” هاجموا الشيخ العزّونيّ بكلّ شراسة، وهم الذين ينافحون عن شيوخ يطعنون في حركة المقاومة الإسلاميّة “حماس” ويخطئونها لأنّها -حسبهم- تحرّشت بالصهاينة وهي التي لا قوة لها بمواجهتهم، بل يبرّرون للحكّام الذين رفضوا مدّ يد العون لحماس بأنّ هذه الحركة -حسبهم دائما- ليست أهلا للدّعم، ودعمُها لن يجدي نفعا!
لكن، بغضّ النّظر عن هذه الطائفة من المعترضين على كلام الشّيخ العزّوني، فهل ما قاله الشّيخ خطأ محض وباطل من القول، ليس له وجه من الصحّة، ولا يقبل البتّة؟ الإجابة عن هذا السّؤال تكون عبر النقاط الآتية:
أولا: المولى –سبحانه- قد رغّب في تزويج الفقراء وإحصانهم، ووعد بأنّه –سبحانه- سيغنيهم من فضله، فقال جلّ من قائل: ((وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)) (النّور: 32)، ورسوله المجتبى –صلّى الله عليه وسلّم-: أمر بتزويج صاحب الخلق والدّين وحذّر من ردّه، فقال: “إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض” (صحيح سنن الترمذي).
لكنّ هذه النّصوص لا يصحّ أن يؤخذ منها حكم عامّ بمعزل عن باقي النّصوص الواردة في المسألة؛ فالآية التي تأمر بتزويج الفقراء جاء بعدها مباشرة قول الله –تعالى-: ((وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه)) (النّور: 33)، والحديث الذي يأمر بتزويج الخاطب إذا كان صاحب خلق ودين، يفهم بمعية حديث “الباءة”: “يا معشر الشّباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوّج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنّه له وجاء” (البخاري ومسلم).
ثانيا: فقه النّصوص يحملنا على القول إنّ الشابّ الذي لا يرى من حاله وواقعه القدرة على مؤنة النّكاح، فإنّه مأمور بالتعفّف والاستعانة بالصّوم وغضّ البصر، لكنّه إن أقدم على الخطبة مع ذلك، ووجد وليا يقبل به، فالوليّ مأجور متى ما توسّم في الخاطب الدّين والخلق والسّعي والحرص والتوكّل من دون تواكل، لكنّه (أي الوليّ) إن بدا له أن يردّ الخاطب أو يجعل الموافقة مشروطة بالحصول على عمل وتوفير مسكن، فهو ليس آثما بحرصه على مصلحة موليته، والمخطوبة إن بدا لها أن ترفض الخاطب لا لشيء إلا لأنّه لا يملك عملا أو لا يملك سكنا، فذلك حقّها، وهي ليست آثمة بذلك. دليل ذلك ما جاء في صحيح مسلم أنّ فاطمة بنت قيس، حينما خطبها معاوية بن أبي سفيان (وكان فقيرا)، أشار عليها النبي –صلـى الله عليه وسلم- برفضه، لأنه “صعلوك (فقير) لا مال له”، مع أنّ معاوية كان من كتبة الوحي.
ثالثا: الشيخ العزّونيّ، عزا الفتوى التي نشرها إلى العلماء.. ومهما كانت الطريقة التي صاغ بها كلامه تحتاج إلى نظر، إلا أنّ العلماء قد نصّوا حقيقة على ما يعضد فحوى كلام الشيخ العزّوني، فهذا مثلا الشيخ الدردير –رحمه الله- قد نصّ في شرحه لمختصر الشيخ خليل المالكي عند كلامه على أحكام النكاح على أنّ “الراغب الذي يخشى العنت (الزنى) يندب الزواج في حقه، ما لم يؤدِّ إلى حرام فيحرم”، قال الدسوقي شارحا هذا الكلام: “كأن يَضر بالمرأة لعدم قدرته على الوطء أو لعدم النفقة. فإذا تقرر هذا عُلِم أن من لم يكن عنده من مؤن النكاح ما يؤدي الحقوق الواجبة عليه للمرأة لا يجوز له الزواج، إلا أن يخشى من تركه الزنى فيجب عليه أيضاً حينئذ، ولكن يخبر المرأة بحاله حتى تكون على بينة من أمرها وحتى لا يقع غش ولا خديعة”.. ومعلوم أنّ المرأة إذا رفضت من ارتكب بخطبتها محرّما أو مكروها، لم تكن آثمة، ولا يأثم وليّها إن أبدى رفضه.
خلاصة القول في هذه المسألة إنّ الفتاة ووليها ينبغي لهما أن يكون الدّين والخلق هما المعيار الأهمّ الذي يراعيانه في قبول الخاطب، وهذا المعيار مراعاته واجبة، بخلاف القدرة المادية فمراعاتها مباحة، من أخذ بها مع الدّين والخلق فلا يأثم ولا يلام، أمّا من جعلها شرطه الأهمّ والأوحد بغضّ النّظر عن الخلق والدّين فهو مفرّط وآثم.
ديننا يحثّ على الاهتمام بالجواهر قبل المظاهر وبمقوّمات الدّين قبل مقوّمات الدّنيا، ويعد من يفعل ذلك خيرا، لكنّه لا يُلزم النّاس بأن يكونوا مثاليين منقطعين عن واقعهم، والواقع له تأثيره على النفوس، وليس كلّ النّاس من الإيمان واليقين على درجة تمكّنهم من تحدّي مكرهات الواقع، ولذلك ففي مسألتنا هذه، ننصح كلّ شابّ مسلم بأن يكون دينه وخلقه رأس ماله، ويكون يقينه برزق الله وفضله كبيرا، لكنّنا نطالبه بأن يكون متعففا عزيز النفس، باذلا الأسباب إلى الأبواب، فإن أعيته الأسباب مع حرصه وطرق بابا من الأبواب، فقُبل، فذاك فضل الله، لكن إن حصل ما لم يتمنّه ورُدّ عن الباب، فليس له أن يتّهم من ردّه بمخالفة نصوص الشّرع أو بعبادة الدّنيا! بل ينبغي له أن يعذره.. وكما أنّ من استصحب شعور الشّباب المعسرين سيتعاطف معهم حتما، كذلك من استصحب شعور الآباء الحريصين على خيري الدّنيا والآخرة لبناتهم سيعذر كثيرا من الآباء.
من حقّنا أن نخطّئ الشيخ العزّوني في طريقة طرح القضية بما يخدم هوى النّساء والأولياء المستكبرين على الفقراء، ويبثّ اليأس في قلوب كثير من الشّباب الذين أصبح الظّفر بسكن حلما صعب المنال بالنّسبة إليهم، وقد يوجد بينهم من يملك وظيفة ولكن لا طاقة به لتوفير مسكن، لكنّه يملك القدرة على كراء ما يقي الحرّ والقرّ.. نعم قد يـُخطّأ الشيخ في عدم مراعاة واقع فئة عريضة من الشّباب، لكنّ الهجوم عليه وإلزامه كثيرا من اللوازم، ليس مسلكا سديدا، بل هو نذير شرّ على الأمّة أن يسقط دعاتها الذين عرف عنهم تحري الحقّ وإخلاص النصح للعامّة والخاصّة، ونصرة قضايا الأمّة المصيرية.