هل أُعتِقت من النّار؟

في كلّ ليلة من ليالي رمضان، يمتنّ الله -تبارك وتعالى- بعتق رقابِ عبادٍ له مؤمنين، تعرّضوا للنفحات والرّحمات، وصفّوا الأقدام في صفوف الصّلاة، ورفعوا الأيدي بالدّعوات؛ في كلّ ليلة يأذن الله بفكّ أسر من شاء من عباده، لتُذكَر أسماؤهم في الملأ الأعلى، وتهنئهم ملائكة الأرض والسّماوات العلى، وتزفّ إليهم البشرى بتلك المنّة التي تستحقّ أن تبكي لها القلوب قبل العيون؛ هم لا يسمعون البشارة، لكنّهم يجدونها رقّةً في قلوبهم وفرحا في أرواحهم، وإقبالا في جوارحهم على طاعة الله وطلب رضاه.
العبد المؤمن الفطن، يجعل العتق من النّار في ليالي رمضان نصب عينيه، يتملّكه الخوف ويحدوه الرّجاء، في كلّ ليلة يخاطب نفسه قائلا: لعلّ هذه اللّيلة هي ليلتي التي أعتق فيها من النّار وأفوز برضا العزيز الغفّار، ولا يهدأ له بال إلا في آخر ليلة من رمضان، بل في آخر ساعة من ساعاته. عند ارتفاع أذان المغرب من آخر أيامه، يخفق قلبه مع كلمات الأذان، وهو يرى بعيني قلبه كيف يرحل رمضان، راجيا أن يكون اسمه في قائمة العتقاء والسّعداء.
لم يبق من ليالي العتق سوى ليال معدودات، وهي فرصة لكلّ عبد مؤمن يحسّ بالتّفريط في حقّ رمضان، ويجد في قلبه قسوة وفي روحه ثقلا، يخشى معهما ألا يكون قد أعتق بعدُ من النّار. فرصة لكلّ عبد مؤمن أن يتعرّض لرحمة الله في هذه اللّيالي، عسى الله أن ينظر إليه نظرة رحمة، فيلحقه بركب عتقائه في هذا الشّهر الكريم.
الخيل إذا شارفت على نهاية المضمار بذلت قصارى جهدها لتفوز بالسّباق، والأعمال بخواتيمها، ومن أحسّ أنّه لم يحسن استقبال رمضان ولم يحسن استغلاله، فلعلّه يُحسن الوداع، ويرى منه الحنّان المنّان الصّدق في الحسرة على شهر العفو والغفران، فيكتب له الرّضوان والعتق من النيران.
العبد الحريص، لا يسمح لنفسه بأن تملي له وتغرّه بفرص أخرى تأتي في أعوام قابلة من عمر لا يزال طويلا! إنّما يحزم أمره لكأنّ رمضان هذا العام هو رمضانه الأخير، مستحضرا أنّ الكريم –سبحانه- قد يمتنّ على من يأتي متأخّرا بفضله وكرمه، ويلحقه بمن سبق، إذا وجد منه الإخلاص ورأى من قلبه النّدم والتحسّر. يقول الإمام الحسن البصري –رحمه الله-: “أحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى”، ويقول الإمام ابن الجوزي -رحمه الله-: “إنَّ الخيلَ إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قصارى جهدها لتفوزَ بالسِّباق، فلا تكن الخيل أفطنَ منك! فإنما الأعمال بالخواتيم، فإنك إذا لم تحسن الاستقبال لعلك تحسن الوداع”. ويقول ابن تيمية –نوّر الله قبره-: “العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات”.