هل الجامعة الجزائرية على الطريق الصحيح؟

تحيي الجزائر هذا العام “عيد الطالب” في ظل تحولات جوهرية تشهدها الجامعة الجزائرية في أدوارها المجتمعيّة، خاصة ما تعلق منها بالانخراط القويّ في تحقيق التنمية الوطنية من موقعها كمؤسسة تكوينية للمورد البشري، ودفع عجلة الابتكار والبحث العلمي التطبيقي في مختلف المجالات.
صحيح أن ما بلغته الجامعة الجزائرية اليوم، ومن دون تنكّر لجهود المسؤولين في كل المراحل، قد تحقق جزء كبير منه عن طريق التراكم الذي جعلها تنتقل تدريجيا من تغطية الحاجة الكميّة، عن طريق توفير الهياكل القاعدية وتخريج المؤطرين، إلى رهان النوعيّة حاليّا، بالانفتاح على أدوارها التنموية.
إن الجامعة الوطنية تشهد مؤخرا حركية علميّة متقدمة وحيوية تكوينية بارزة وتطورا لافتا في الإدارة والتسيير، سواء على المستوى البيداغوجي أو التكفل الاجتماعي بالطلبة، خاصة مع تفوقها المشهود في تجسيد مشروع الرقمنة، ضمن الالتزامات الرئيسية لبرنامج رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون.
ربّما علت من هنا أو هناك انتقادات للاهتمام الكبير بغرس ثقافة المقاولاتية في الوسط الجامعي، وصلت إلى حد السخريّة، مثلاً، من إسقاط المشروع على مخرجات العلوم الإنسانية والاجتماعية، بسبب عدم إدراك البعض لمفهوم المؤسسة الناشئة، لكن الخبراء يؤكدون أنه الخيار المحتوم في ظل التنمية المعاصرة وتكريس الدور الاقتصادي للمؤسسة الجامعية، ولا يمكن أن تخلو أي تجربة من الأخطاء والنقائص والعثرات، لكنها قابلة للتصحيح، من دون أن تبرر في أي حال من الأحوال رفض الفكرة في أساسها.
المؤشرات المعلن عنها حتى الآن في هذا الاتجاه والتفاعل الكبير بين الطلبة في تقبّل فكرة المقاولاتية أو “العمل الحر” يبشّر بالخير نحو التغيير الثقافي والذهني والسلوكي في التصور العام لمحتوى الشهادة الجامعية التي جعلها الكثيرون ملازمة للتوظيف الإجباري في المرفق العام، من دون التفكير بروح إنتاجيّة لتقديم القيمة المضافة في المجتمع، خاصة في ميدان الاقتصاد والتنمية.
عالم الشغل اليوم لا يعترف إلا بالمهارات التي تصقلها الممارسة والاحتكاك والتجريب والمغامرة والانفتاح على السوق، لذلك جاء اندماج الجامعة الجزائرية في المنظومة المقاولاتية في وقته المناسب، استجابة لحاجة حقيقية وتحولات يفرضها التكيّف مع المحيط الاجتماعي والاقتصادي، عوض الاستغراق في تكوين نظري يمنح شهادات ورقية، لمراكمة عدد البطالين غير المؤهلين عمليّا.
يتوازى ذلك مع سياسة حثيثة للتركيز على رعاية المراكز الجامعية البحثيّة ذات الصلة بالابتكار الصناعي وبراءات الاختراع، والتي توصلت في غضون الأشهر الأخيرة إلى تسجيل نتائج واعدة، تحتاج إلى تجسير العلاقة التجاريّة بالمؤسسات الاقتصادية، لتنفيذ تلك الابتكارات المحققة وتحويلها إلى منتجات قابلة للتسويق، وهذه واحدة من الورشات المفتوحة ليس على مستوى التعليم العالي، بل على نطاق حكومي يمكنه إيجاد حلقة الوصل القطاعية التكاملية.
على صعيد آخر، تثبت التصنيفات المشهورة أن الجامعة الجزائرية تستدرك الآن تأخرها على نطاق الترتيب العالمي للإنتاج البحثي، بغض النظر عن أسبابه سابقا، فقد نجحت حتى الآن من موسم إلى آخر في تحسين موقعها ضمن المؤشرات الدوليّة المعروفة، من دون أن يعني ذلك أننا في أحسن حال بالنسبة للإنتاج العلمي كما ونوعا، لكن النتائج الجديدة تؤكد، على الأقل، أن هناك جهودا معتبرة في مستوى العمل على ترقية مرئيّة الجامعة الجزائرية، عن طريق التطوير الرقمي الذي جعلته الوصاية على سلّم الأولويات الكبرى.
وإذا تكلمنا عن عصرنة الإدارة الجامعية، فلا يمكن تجاهل السبق الذي أحرزه القطاع في بلوغ مراحل جد متقدمة على طريق الرقمنة، بل إنه شكّل قاطرة لتحريك القطاعات الأخرى، ويمكن لأي منتسب حاليّا للجامعة من الأساتذة أو الطلبة تلمّس تلك المكاسب المهمّة في تسهيل الحياة الجامعية وتحديثها.
أما ما ربحته الخزينة العمومية من فرض الشفافية الرقمية في تسيير الخدمات الاجتماعية، فقد كشفت عنه الجهات المعنية بالأرقام وحجمه تجاوز مئات الملايير في غضون أشهر قليلة.
هل تعني هذه المؤشرات الواردة على السريع أن الجامعة الجزائرية قد بلغت القمة، وتجاوزت كل مشاكلها البيداغوجية والبحثية والاجتماعية لتصبح جزءا من الماضي، قطعا لا يقول بذلك عاقل، لأن الحلول، ومثلها التطور، تأتي بصفة تدريجية، لكن ما يهمّ هو أن جامعتنا تعيش حاليّا حالة من الحيويّة، ترشّحها لفتح كل الملفات الأخرى المطروحة للمراجعة والاستدراك، وستنجح في التحدّي، طالما تحلّت بروح النقد والحوار والانفتاح على مكوناتها النخبوية، في ظل رؤية وطنية واضحة، وإدارة جادة في الوصول إلى الأهداف المسطّرة، مستفيدة من الدعم السياسي القوي للسلطات العليا في البلاد.
وهنا يبرز الملف الشائك المتعلق بنظام التكوين “آل.آم.دي”، المعتمد منذ 20 عاما، إضافة إلى واقع البحث العلمي في الميدان، ونوعية المخرجات في مرحلة ما بعد التدرج، ومستوى التكوين الجامعي لأطوار الليسانس والماستر، وهي، بلا شك، قضايا متداخلة ومتشعبة من حيث الأسباب وذات تأثير متبادل، تحتاج إلى ورشات جريئة، وإلى وقت كاف أيضا لهندسة مخارج واقعيّة قابلة للإنجاز.
لا ننسى أن منتجات التعليم العام تصب في منظومة التعليم العالي، وعليه، فإن الثانية تتحمّل وزر الأولى من حيث التأهيل للمرحلة الجامعية، مثلما أن الأولى تتغذى لاحقا من مخرجات الثانية في عملية التدريس، حيث تتجلى فيها آثار ضعف الأولى تكوينيا، ما يستوجب النظر برؤية شموليّة لإصلاح التعليم بكل أطواره في الجزائر، بالتركيز على مقاصده القاعديّة والتنموية في آن واحد، بعيدا عن السياسات الشعبويّة ذات الخلفيات الاجتماعية المرتبطة بشراء السلم المدني على حساب السياسة التعليمية الناجعة.