-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هل اهتممنا بصناعة الكتاب؟

التهامي مجوري
  • 256
  • 0
هل اهتممنا بصناعة الكتاب؟

تحيي الجزائر الوطني للكتاب، في اليوم السابع من جوان من كل عام، إحياء للذكرى الثالثة والستين لحرق مكتبة الجامعة المركزية في السابع من جوان 1962، من قبل المنظمة الإرهابية OAS التي كانت تقوم بعمليات إرهابية خلال الفترة قبيل الاستقلال في5 جويلية 1962.

يعد هذا العمل الإجرامي جريمة كبرى، في بلد يستعيد سيادته بعد افتكاكها منه مدة قرن وثلث قرن، إذ أن تخريب مكتبة جامعية من أقدم وأهم المكتبات في العالم العربي وإفريقيا لِمَا كانت تحتويه من رصيد ثري وغني بالنوادر الثقافية من كتب قيمة في مختلف العلوم ومن المخطوطات النادرة بالعربية واللاتينية.

لقد حصد الحريق ما بين أربعمائة ألف إلى ستمائة ألف بين كتاب ومخطوط.

ونتيجة ذلك، حرمان الجزائر المستقلة من هذا الصرح العلمي والثقافي ومحتوياته الغنية، إضافة إلى كونها جريمة في حق المعرفة والعلم والثقافة؛ لأن ما أحرق يمثل غالبية الكتب والمخطوطات النادرة التي يعود تاريخها إلى القرن السابع عشر الميلادي، ولم يبق من تلك النوادر سوى ثمانين ألف كتاب ومخطوط، ناهيك عن الكتب والمخطوطات التي تمت سرقتها وتحويلها إلى فرنسا من سائر المؤسسات الثقافية الجزائرية، من مكتبات ومراكز ثقافية ومتاحف وغيرها…

إن إحياء الذكريات في المجتمعات ليس من أجل البكاء على الأطلال وإعادة اسطوانة التأذي من الاستعمار وجرائمه، فتلك لم تعد تجدي بعد ثلاثة وستين سنة من الاستقلال، إذ ما جدوى أن نذكر أن الفرنسيين المجرمين أحرقوا مكتبتنا الجامعية ونحن لم نسع في استرجاع نسخ من المحروقات، أو تبييض ما سوّدت فرنسا في علاقتنا بالكتاب، أللهم ما يمكن الاستئناس به في هذه الذكرى “حرق المكتبة” من أثر فعلي في الواقع، للمطالبة بالتعويض المادي والمعنوي، أو العمل على استعادة الأرشيف والمسروقات المنهوبة أو على الأقل استرجاع نسخ منها إغناء للمكتبة الوطنية الجزائرية كما ذكرنا.

والأهم من ذلك، أن جعل يوم وطني الكتاب، يعني أن للدولة تصورا لعالم الكتاب وأهميته في المجتمع، إنتاجا ونشرا وتوزيعا وقراءة ومشاركات في المعارض الدولية للكتاب في العالم، فهل لنا وفي مؤسساتنا سياسة لعالم الكتاب وعلاقتنا به؟

بلى يوجد، ولكنه كلام في كلام.. توجد وزارة للثقافة، وتوجد مكتبات، ودور خاصة للنشر، ومكتبات على مستوى البلديات والولايات؛ بل تجد مؤسسة وطنية للكتاب، التي يفترض أنها هي التي تضع سياسة الكتاب في البلاد، إنتاجا وتوزيعا وتسويقا ومشاركة به في العالم، بل وسياسة لفلسفة القراءة واستراتيجية لاقتناء الكتاب جماهيريا… ولكن لا أعتقد أن ذلك موجود على مستوى الفعل؛ لأنه لو كان موجودا لتحدث عنه الناس وتداولوا تفاصيله في أحاديثهم الخاصة والعامة حول الكتاب وما يحيط به، بل يوجد في سلوكات بعض مسؤولينا ما يقضي على هذه العملية من أساسها، سواء في التعامل مع الكتاب كصناعة وإنتاج وتسويق واهتمام بمنتجيه من الكاتب والناشر والموزع والكتبي والقارئ، أو في الاهتمام به كمُنْتَج من المنتجات الوطنية التي تفخر بها البلاد في حضورها المحافل الدولية في المناسبات الخاصة بالموضوع، أو حضور هذه المنتجات نفسها لتعبّر على مستوى البلاد في ذلك، مثلما يفعل المصريون في معرض القاهرة للكتاب، الذي يضاهي معرض فرانكفورت في أوروبا.

إن الكلام عن عالم الكتاب في بلادنا بكل أسف لا يمكن الكلام عنه إلا والمرارة تعتصر القلوب، ولعل من أبلغ العبارات في ذلك كلمة شيخ المؤرخين أبو القاسم سعد الله رحمه الله المعبرة عن واقع الكتاب وحواشيه في بلادنا، في حوار أجرته معه مجلة “الفيصل” السعودية في ثمانينيات القرن الماضي إذ قال “الكتابة في الجزائر معجزة”… وهذه العبارة عندما يطلقها أكاديمي نشيط وكاتب متمرس وباحث جاد، لها معنى أكثر مما لو ذكرها شخصٌ آخر تفاعلا أو انفعالا.

كيف تكون الكتابة معجزة؟ تكون الكتابة معجزة، عندما لا يجد الكاتب الكتاب الذي يحتاج إليه في السوق، وعندما يعجز عن الوصول إلى المراجع التي يريد الوصول إليها، وعندما لا يجد من يهتم به في الجامعة وفي الوزارات المختلفة [التعليم العالي، الثقافة، المجاهدين، التربية الوطنية… وعندما ينتج لا يجد من يتبناه من الناشرين، أو لا يجد من يساعده على وصول منتوجه إلى الطلبة وسائر القراء؛ لأن الناشرين بدورهم يبحثون عمن يساعدهم.

وقبل كل هذا وبعده لا يوجد في بلادنا تقاليد في عالم الكتاب ورسم سياساته إنتاجا وتوزيعا وتسويقا وترويجا واكتشافا للكتَّاب واستقطابهم، يضاف إليها المرض المزمن في بلادنا وهي أن الجزائري لا يكتب أو قل يخاف الكتابة، لماذا؟

لا أدري.

قبل أيام قليلة نظمت الوصاية ملتقى للناشرين الشباب، وكأن مؤسساتنا كانت وفيّة مع غير الشباب، أو وفية مع الشباب في مجالات أخرى، ثم متى كان الاهتمام بالمهن تحدده الفئات العمرية؟ وإذا كانت هذه الفكرة من عبقرياتنا، فلنعمم الفكرة ونطلق العنان للموضوع في جميع القطاعات… السياسيين الشباب، المستوردين الشباب، التجار الشباب، الأساتذة الشباب… ونبادر بخفض سن التقاعد إلى الخمسين سنة، لنتخلص نهائيا من الشِيّاب ومن جاورهم.

ومن عجائب الأقدار أن بعض الناشرين في هذا الملتقى أحضر الآباء ممثلين لأبنائهم، لأن الكثير من النافذين ومن جاورهم أنشأوا دور نشر في أزمنة سابقة أيام “الريع البوتفليقي” بأسماء أبنائهم وازواجهم…

لا شك أن دعم الشباب مبادرة مهمة ورائعة، ولكن المهن تتوارثها الأجيال بمعزل عن الاحتراف، والحرفية تنتقل من الشِيّاب إلى الشباب، وخاصة المهنة التي تحتاج الاحتراف الدقيق، ومن ثم الاهتمام ينبغي أن يكون بالحرفة ومن يمارسها بحق، فينبغي أن لا نغامر بها؛ بل يجب أن نتركها تتحول بسلاسة بين الأجيال وليس بتهميش الحرفيين والإتيان بمن لا سابقة لهم في العلاقة مع الكتاب.

ليعلم أهل القطاع أن الناشر الحقيقي، يتكبّد الخسائر وراء الخسائر، ولم يتخل عن الكتاب؛ بل منهم من أنشأ مشروعا تجاريا آخر “من جل الحفاظ على الخبزة” وبقي في الميدان من شدة حبه للكتاب.

تبدأ صناعة الكتاب من الكاتب الذي يحتاج إلى محاضن وطنية تكتشفه وتشجعه وتحتضنه؛ لأن الكاتب لا يكون بالضرورة من الأكاديميين، فربما يكون من الهواة… مثل الرياضي تماما، الذي لا يحسن شيئا إلا اللعب، تكتشفه فرق الأحياء فيشتهر ويذيع صوته فتتبنَّاه بعض الفرق الأكبر ليجد طريقه بعد حين إلى تمثيل البلاد في الفرق الكبيرة والفريق الوطني…

وقد كانت الجرائد في أيام الحزب الواحد، تفتح صفحاتها الأدبية وصفحات الرأي والثقافة والمجتمع على القراء، فكانت الساحة الثقافية تكتشف وتصطفي الكُتّاب من تلك التجارب البسيطة، التي لم تكن مقصودة كسياسة للدولة، وإنما كانت بعفوية المثقف المسؤول عن الصفحة أو القسم في تلك الجريدة.

لقد حصد الحريق ما بين أربعمائة ألف إلى ستمائة ألف بين كتاب ومخطوط.

ونتيجة ذلك، حرمان الجزائر المستقلة من هذا الصرح العلمي والثقافي ومحتوياته الغنية، إضافة إلى كونها جريمة في حق المعرفة والعلم والثقافة؛ لأن ما أحرق يمثل غالبية الكتب والمخطوطات النادرة التي يعود تاريخها إلى القرن السابع عشر الميلادي، ولم يبق من تلك النوادر سوى ثمانين ألف كتاب ومخطوط.

الخطوة الثانية هي وجود الناشر، وفي بلادنا لم نعرف الناشر المهني الحقيقي خلال سنوات الاستقلال إلا في نهاية الثمانينيات، إذ أفلست الإدارة في القطاع، ففُتح المجال للخواص… والناشر عندما يغامر برأسماله، فإنه يحتاج إلى سند رسمي؛ لأن عالم الكتاب سياسة دولة وليس تجارة رابحة يمكن للناشر خوضها والربح فيها؛ لأن دائرة الاستهلاك في عالم الكتاب محدودة جدا، وهذا السند غير موجود بالقدر الكافي، إلا في قطاع واحد هو الإبداع أي الجانب الأدبي، وهذا موجود ومقرر في وزارة الثقافة، ففي كل عام ينشر باسم الوزارة الكثير من الأعمال الأدبية، ولكن من يصل من الناشرين إلى هذا المقرر الوزاري؟! بل إن النقابات التي من المفروض أنها هي التي تقوم بالدور المنسق بين الإدارة الرسمية وسائر الناشرين الذين تمثلهم، نلاحظ أن بعض الناشرين بلغوا عنان السماء بفضل من يتمتع به من إكرام رسمي، وبعضهم كاد يختفي تحت الأرض، جراء العرقلة والتهميش والاستبعاد… لأن الريع قليل ولا يتسع لجميع الناشرين الجادِّين في البلاد.

أما خارج المجال الأدبي والفني، فالكاتب مغامر، إذا ما ولج عالم الفكر وباقي مجالات المعرفة للمساهمة في ترقية المستوى الثقافي للأمة؛ لأن الفكر والعلوم الإنسانية ليست كلها إنتاجا متخصصا، وإنما هناك الإنتاج الفكري الذي مهمته تنشيط الحياة الثقافية وتبسيط المعرفة للناس، لأن جميع الناس معنيون بما ينتجه الأكاديمي والفيلسوف والسياسي، والكاتب في الإطار العام مهمته تبسيط الأمور الأكاديمية لتبسيط الخطاب ورفع المستوى الجماهيري للتفاعل الإيجابي مع الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي.

الجانب الثالث والأهم وهو وضع سياسة لإنتاج الكتاب؛ لأن إنتاج الكتاب في المجتمعات، ليس بغرض التعليم الذي له مجاله هو الآخر، وإنما من أجل التربية الاجتماعية والتنمية الثقافية في المجتمع، فإنتاج الكتاب من أجل المساهمة في تثقيف المجتمع، عبر محاربة الأمية وإيجاد المجتمع القارئ، وتطوير الخطاب السياسي المعرفي الثقافي إرسالا واستقبالا، وإيصال الكتاب إلى جميع مناطق البلاد عبر المكتبات، البلدية والولائية والمراكز الثقافية بها والمكتبات المسجدية… إلخ، وتشغيل المهنيين من الكُتَّاب والناشرين الذين اختاروا هذا القطاع رغم متاعبه؛ لأن الكتاب صناعة والصناعة لا يحسنها كل أحد، وهؤلاء الذين يحسنونها لا بد من رعايتهم رعاية خاصة حفاظا على المهنة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!