هل حان موعد تجريم الاستعمار الفرنسي؟

تتعالى الأصوات في الجزائر منذ سنوات بضرورة التقدُّم خطوة شجاعة على طريق الذاكرة والتدافع مع فرنسا، بالذهاب إلى تشريع قانون وطني لتجريم الاستعمار، إذ شهد البرلمان عدة مبادرات في هذا الاتجاه، منذ مطلع الألفيّة الثانية، لكنها لم تجد طريقها نحو التجسيد لتقديرات دبلوماسية مختلفة من السلطات التنفيذية للبلاد.
اليوم يبدو أن الإرادة السياسية العليا تتبلور أكثر فأكثر نحو تنفيذ المشروع القانوني في سياق المكابرة الفرنسية وتنصّل دولة الاستعمار من كل مسؤولياتها المادية والأخلاقية عن جرائمها الشنيعة في حق الشعب الجزائري طيلة 132 سنة من ممارسات أبشع أنواع الإبادة والنهب والتخريب والإدماج الحضاري بالإكراه وطمس الهوية.
ها هي الجزائر، وعلى أعلى مستوى رسمي، تقود أخيرا المبادرة القارية داخل الاتحاد الإفريقي لاعتماد مشروع تجريم الاستعمار قبل طرحه على الأمم المتحدة.
وضمن هذا المسعى ناقش قادة إفريقيا، على مستوى الرؤساء بأديس أبابا نهاية الأسبوع، لائحة الجزائر بعنوان “العدالة للأفارقة والأشخاص من أصل إفريقي من خلال التعويضات عن الاستعمار”، وتهدف إلى “بناء جبهة مشتركة وموحدة، من أجل قضية العدالة ودفع التعويضات للأفارقة عن الجرائم التاريخية والفظائع الجماعية المرتكَبة ضد الأفارقة والأشخاص من أصل إفريقي، بما في ذلك الاستعمار والفصل العنصري والإبادة الجماعية”، مثلما ورد حرفيًّا في الوثيقة.
وتريد الجزائر من خلال خطوتها العملية الواعدة أن تتكفل مفوضية الاتحاد الإفريقي بقيادة جهود النشاط الدولي للاعتراف التاريخي بتأثيرات الاستعمار، حتى يكون لها صدى أوسع وأقوى في إطار عملية جماعية، وفق تعبير الوزير أحمد عطاف.
ولعلّ تتويج السفيرة سلمى مليكة حدادي بمنصب نائب رئيس مفوضية الاتحاد القارّي سيمكّن الجزائر من تفعيل مبادرتها ودورها أكثر في استكمال تصفية الاستعمار بإفريقيا وملاحقة المستعمِرين القدامى والجدد منهم.
وفي المستوى المحلّي، شددت منذ أيام أشغال يوم دراسي حول التفجيرات النووية الفرنسية في الجزائر، على سنّ قانون يجرِّم الاستعمار ويلزم فرنسا بالاعتراف بمسؤوليتها عن جرائمها في حق الجزائريين، وجرى ذلك بحضور نواب عن كل الكتل البرلمانية، فضلا عن أعضاء اللجنة الجزائرية للتاريخ والذاكرة (رئاسية)، ما يؤكد الطابعَ التوافقي والجماعي للمطلب الوطني.
وينبغي التأكيد في السياق ذاته أنّ نبرة الرئيس عبد المجيد تبون تجاه الماضي التاريخي للاستعمار الفرنسي تظل عالية السّقف، مع تمسُّكه بطيّ عادل وموضوعي لملف الذاكرة، حتى إنه في حواره الأخير مع صحيفة “لوبينيون”، أعلنها بوضوح أنّ التعويضات المتعلقة بالتفجيرات النووية وباستخدام فرنسا الأسلحة الكيميائية في جنوب الجزائر مسألة ضرورية لاستئناف التعاون الثنائي، أي أن الموقف الرسمي الآن يتجاوز الاعتراف إلى الحق في التعويض.
لو يتقاسم زعماء الدول المركزية في إفريقيا هذه الرؤية مع الرئيس تبون، فإنّ الجزائر والقارّة كلها ستكون أمام فرصة تاريخية، لإجبار باريس على النزول من برج الغطرسة الإمبريالية، والتسليم بعهد سيادة المستعمرات السابقة، للتعامل معها بشكل ندّي وبراغماتي يحفظ المصالح المشتركة للجميع، لأجل فتح صفحة جديدة من العلاقات البينية.
إنه لا خيار آخر إلاّ إخضاع فرنسا للإرادة الجماعية لشعوب إفريقيا، غير أنه من الممكن أن تكون المبادرات الوطنية لتجريم الاستعمار محفزا مهما للتحرك المشترك في المستوى الدولي والأممي، بما يفتح لاحقا المجال للمساءلة الجزائية والمدنية.
لقد صار المطلوب عاجلاً من دول القارة المتضررة أن تصدر تشريعاتها الوطنية بتجريم الاستعمار، إذ تقيّد قانونيّا كل علاقاتها مع المستعمر القديم بشروط الاعتراف والاعتذار والتعويض عن كافة الجرائم، وإعادة الممتلكات المنهوبة طوال فترة الاحتلال، بل تلزمه بإلغاء كل النصوص الرسمية الممجِّدة لماضيه الهمجي.
وبموجب تلك القوانين القُطرية، ستؤسس الجزائر ودول إفريقيا المعنية، ضمن آليات المتابعة الجزائية والمدنية “محكمة جنائية خاصة” داخل أقاليمها، لمحاكمة كل شخص متورط بأي شكل من الأشكال في تلك الجرائم، مقابل ترسيم حق الضحايا وذوي الحقوق، وكل المنظمات المختصة في رفع دعوى قضائية لدى محكمة العدالة الجنائية، وكذا دعاوى التعويض أمام القضاء العادي.