-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هل رددنا الدين يا أستاذ علي؟

حسان زهار
  • 829
  • 0
هل رددنا الدين يا أستاذ علي؟
ح.م

قبل ثلاثين سنة من الآن، وفي خضم الانفتاح الإعلامي والسياسي الذي عايشته الجزائر بعد أحداث أكتوبر، وقد كنت لا أزال وقتها طالبا جامعيا في العلوم السياسية، أخذني شغف الكتابة إلى محاولة كتابة مقال عن واقع الشباب الجزائري، وصادف أن حدثني زميلي رشيد فضيل الذي كان يدرس معي في نفس القسم، عن ميلاد أسبوعية الشروق العربي، وعن إمكانية الانضمام إليها، فتوجهت بمقالي الأول ذاك إلى مقر الجريدة الوليدة بحيدرة، لأجد أمامي الأستاذ علي فضيل مستقبلا، وما إن اطلع على المقال حتى قرر فورا برمجته في العدد الموالي، مع منحي ركنا ثابتا بالجريدة سماه المرحوم بنفسه “منشاريات”.

كانت المفاجأة كبيرة بالنسبة إلي، فلم أكن لأحلم بأكثر من نشر المقال تشجيعا، غير أن إصرار المرحوم علي فضيل على توظيفي مباشرة ومنحي ركنا ثابتا بالجريدة قام بنفسه بتسميته والسهر على بروزه، أخلط جميع أوراقي، ومما حكاه لي الكاريكاتيريست الكبير عبدو أيوب، أن الأستاذ علي فضيل، جاءه بعدها مباشرة إلى مكتبه بجريدة الخبر بدار الصحافة طاهر جاووت، وطلب منه رسما كاريكاتوريا خاصا بالمقال الذي كتبته، وقد أصر عليه أن ينجزه بسرعة فائقة، حتى يتمكن من نشره مع مقالي في أول ظهور لركن منشاريات، وقد استجاب الزميل عبدو للطلب وصدرت الجريدة بعدها بيومين بالشكل الذي أراده الأستاذ علي، وأنا لا أكاد أصدق ما يحدث.

ظل هذا الدين الذي ألزمنيه الأستاذ علي معلقا في رقبتي طوال عمري.. وقد شعرت بعدها مباشرة، بأنني مطالب برد دين هذا الرجل العظيم، هذا الذي لم يكن يعرفني من قبل، لكنه آمن بموهبتي مباشرة بعد أول سطر قرأه مني، ولم أعرف كيفية رد الجميل، غير أن أكون شروقيا دائما متى استطعت، أين أمضيت سنواتي الأولى في الصحافة مواظبا على تقديم ما لدي من طاقة وجهد لصناعة نجاح “الشروق العربي” وتميزها، وبالفعل لم تمض فترة طويلة حتى تبوأت الأسبوعية مكانة مرموقة جدا ليس على المستوى الوطني وحسب، بل وعلى المستوى العربي، حين راحت تنافس في بديات التسعينيات كبريات الصحف العربية، كالأهرام، في عدد السحب، غير أن ذلك لم يكن بأي ثمن، بعد أن تولى الأستاذ علي مهمة قيادة كوكبة من الإعلاميين الشباب، وتوجيههم ناحية قضايا كانت من الطابوهات أو المسكوت عنها، ليس في الجوانب الاجتماعية والفنية فحسب، بل إن الشروق العربي كانت المنبر السياسي الأبرز، وصاحبة الصوت الأعلى والأكثر شرفا في مرحلة ما بعد توقيف المسار الانتخابي في الجزائر.. حينها توالت هجمات المنظومة الحاكمة، بقيادة أحمد أويحيى، على الجريدة، ومما أذكره عمليات الاعتقالات المتتالية لطاقم الجريدة لكسر شوكتها وترهيب أفرادها، وإذ أنسى فلا يمكنني أن أنسى أبدا، يوم تم اعتقال الأستاذ علي فضيل، وعدد كبير من الزملاء الصحافيين، وقد وصلتني وصية الأستاذ علي بضرورة استكمال العدد الذي كان يقترب موعد طباعته، فاضطررت إلى الهروب وإكمال العدد في غرفة من غرف أحد الأحياء الجامعية، قبل أن أسلم نفسي لفرقة الدرك الوطني ببوزريعة، بعد أن أقام لي الزملاء في المقر مأدبة وداع مؤثرة .

لقد كان علي أن أرد بعض الجميل الذي غمرني به الأستاذ الكريم، ولم يكن يهمني أن أدخل السجن، أو أن أكون مهددا بالقتل من الإرهاب، وقد دفعت الشروق ثمنا باهظا من طاقمها الصحفي والإداري الذين اغتالتهم أيادي الغدر والإرهاب، فلقد ظل الأمر بالنسبة إلينا ونحن نحتمي بهيبة الأستاذ علي، تحديا أكبر من مجرد خوض معركة عادية، إنها معاركنا المصيرية التي خضناها دائما معا، حتى وقرارات توقيف الجريدة تنزل علينا بعدها كالصاعقة، استمرت الشروق الأسبوعي في شكل مجلة، واستمررنا في محاولاتنا الحثيثة لرد الدين الجميل علينا، ولو بالعمل دون أجرة لعدة شهور، إدراكا منا للظروف الصعبة التي تمر بها الجريدة.

لكن، يأبى الأستاذ علي، إلا أن يكون أكبر من كل تضحياتنا، يأبى أن تسقط أفضاله علينا بسهولة، وما إن تراجعت الضغوط عن الجريدة، حتى ناداني وقد كنت وقتها في باتنة، وعرض علي رئاسة تحرير الشروق العربي، مكررا جملته التي يرددها دائما على مسمعي: “أنت ابن الشروق يا حسان، والشروق اليوم في حاجة إليك”، ومما أذكره أنني كنت أريد أن أقول لا.. لا يمكنني أن أعود إلى العاصمة.. لكن وجدتني أردد: حاضر يا أستاذ.. أنا في الخدمة.. لتمضي بعدها سنوات من الحب والعطاء، قبل أن تأخذنا الدنيا إلى آفاق أخرى، وينقطع تواصلي بالشروق وبالأستاذ علي سنة 2001.. ليرن هاتفه مجددا عام 2005، وأفاجأ بنفس الطلب وأنا في باتنة مجددا، الشروق تحتاجك يا حسان، رئيسا لتحرير “اليومي” هذه المرة، ومرة أخرى كنت سأقول لا.. لا يمكنني العودة إلى العاصمة.. غير أن صوتا من الداخل رد عليه: حاضر يا أستاذ.. فإن الدين الذي على عاتقي تجاهك أكبر من كل تضحية، وبفضل الله وقيادة الخبير الكبير، علي فضيل، وهمة الجميع، أشرقت أنوار الشروق اليومي في بداياتها الأولى، وحققت نجاحا عظيما قبل أن أقدم استقالتي لأسباب يعلمها الجميع، وأشهد الله أن الأستاذ علي ظل يرفضها إلى أن أصررت عليها بشدة، ورغم المواقع والمنابر التي توليتها بعد ذلك، ظلت الشروق ودين الرجل الكبير علي فضيل يطاردني، إلى أن اندلع الحراك الشعبي المبارك مؤخرا، ويهاتفني أخي الحاج رشيد فضيل يخبرني أن الأستاذ علي يطلب مني شخصيا أن أكتب ولو من بعيد إسهاما في صناعة وعي حراكي جماهيري جديد، ولم يكن بوسعي إلا أن أستجيب، وقد تزاوج في مخيلتي دين الرجل العظيم علي، ودين الوطن الذي نبتّ في أرضه، فكانت مقالات الحراك آخر محاولاتي لرد دين عمره أكثر من 30 عاما، لرجل يغمرك بالعطاء، فتستحي عمرك كله أن ترفض له طلبا.

فهل رددنا الدين، الأستاذ علي؟ أتمنى أن نكون قد وفقنا في رد ولو جزء بسيط منه.

رحم الله سيد الابتسامة البريئة، إذا ما دخلت إلى مكتبه تشتكي وجع الرأس، خرجت من عنده وقد شفيت من شدة الضحك على الدنيا الفانية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!