الذاكرة بين السياسة والتاريخ .. هل ستشفع لعلاقات البلدين؟
لعل من المسائل العالقة في العلاقات الثنائية الجزائرية-الفرنسية، ملف الذاكرة الذي لا يزال يشغل النخب السياسية والأكاديمية بين البلدين، نظرا لثقل الإرث الاستعماري، الذي يلقي بظلاله على محاور عدة ويؤرق الحاضر بمشاهده وشواهده. لذلك ارتأت فرنسا والجزائر تدشين مشروع بحثي وأكاديمي، لتثبيت معالم الذاكرة الكولونيالية، وكأن الطرفين لم يتفقا على هذا الإرث وما جرى في حقبة استعمارية دامت 132 سنة من قتل، ومصادرة ومحو للشخصية والهوية.
في أعقاب سنة 2022، تم الاتفاق بين البلدين على إنشاء لجنة مشتركة للبحث حول الذاكرة في الحقبة الاستعمارية، ويمثلها من الجانب الفرنسي كل من المؤرخ بنجامين ستورا، فلورانس هودوفيتز، مختصة في حفظ التراث، جاك فريمو مؤرخ الحقبة الامبراطورية، والمؤرخان جون جاك جوردي وتراموركيمونور. ومن الجانب الجزائري كل من المؤرخين لحسن زغيدي ومحمد القورصو وجمال يحياوي وعبد العزيز فيلالي وإيدير حاشي.
وقد سبق للجنة المشتركة أن عقدت اجتماعين، الأول عبر الفيديو في نيسان/أبريل والثاني في باريس في حزيران/يونيو. ما يعني أن اجتماعات هذه اللجنة ليست دورية وغير منتظمة.
لا تناغم بين السياسة والذاكرة
قد يتساءل البعض عن أسباب وجدوى إنشاء هذه اللجنة، التي قد تعد ظاهرا، فرضة لتقارب وجهات النظر حول الماضي الاستعماري، وحل قضايا كثيرة عالقة، مرتبطة بالأرشيف المحتجز لدى الهيئات الفرنسية والجزائرية، وكذا تسليط الضوء على أحداث دامية حدثت في أثناء الحرب التحريرية وما قبلها. وقد تكون فرصة للجانب الفرنسي ليقحم قضايا فرنسية بحتة في جدول أعمال هذه اللجنة، مثل مآلات الحركى، وما تعرض له الرعايا الفرنسيون في أثناء الحرب التحريرية وفي صائفة 62، من اغتيالات وطرد وملاحقات، بحسب الجانب الفرنسي.
أجمل ما في التاريخ، هو تسجيله الأحداث بحيثياتها وتضاريسها، لا يمكن تشويهها، حتى وإن تمت المحاولات، ولكن ثمة شواهد تعطي الباحث والدارس إمكانية رد الاعتبار للحقيقة ودحض الأباطيل والشبهات. وكان لزاما على هذه اللجنة أن تتأسس بمحض إرادة الباحثين، بعيدا عن المحافل السياسية والدبلوماسية، فالجزائري لا يحتاج للجنة تقصٍّ ما إذا كان الاستعمار إجراميا أم لا، لأن الشواهد بكثرتها وبتضاريسها تعطي تجليات الحقيقة التاريخية كل أبعادها، التي لا تقبل الشك بأن الجزائر عاشت شتى أنواع القهر والطغيان على ما يزيد عن القرن من الزمن.
هذه الحقيقة تحظى بإجماع كلي من الجانب الجزائري، شعبا ونخبا، حاكما ومحكوما، وهذه الحقيقة تتوارثها الأجيال. ولكن ثمة فوارق بين النخب الفرنسية، وتباين في المواقف بين أطياف واتجاهات مبنية على أساس إيديولوجي، سياسي وثقافي أيضا.
حلم الجزائر الفرنسية
عندما باشر الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، عهدته الأولى، وبعد عمل دؤوب لتطبيع شامل للعلاقات الثنائية بين البلدين، حصل تقارب معتبر بين رئيسي البلدين، وتم التوقيع على إعلان الجزائر بين بوتفليقة والرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك، وما إن تم مباشرة العمل بتأسيس الأطر التشاورية والميدانية، حتى تم التصويت وفي ظروف غامضة على قانون تمجيد الاستعمار في الجمعية الوطنية الفرنسية، وكانت المادة 4 من ذات القانون بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير، أن يشيد بالمظاهر الإيجابية للاستعمار. ما إن وصل الخبر إلى المرادية، حتى عادت الأمور إلى نقطة الصفر، وذهبت كل الجهود أدراج الرياح.
يجب التذكير بأن هذا القانون تم التصويت عليه من طرف مجموعة من نواب اليمين واليمين المتشدد في جوف الليل، بإيعاز من جمعيات الأقدام السوداء، التي استطاعت تجنيد جماعات الضغط على مستوى البرلمان الفرنسي، وتفويت هذا القانون الذي لم يكن في الحسبان. هذه الجمعيات ذات النفوذ المعتبر لدى الطبقة السياسية اليمينية واليمين المتطرف، لم تتخل عن حلمها المدفون الجزائر الفرنسية، مصبوغ بحقد دفين للجزائر الحرة، ولكل ما يمت بصلة للجزائر، تاريخا، ثقافة ولغة، ولعل الخرجات الإعلامية لوزير الداخلية الحالي برونو روطايو (Bruno Retailleau)، أين يمجد الاستعمار، معبرا عن الساعات المجيدة للاستعمار، وعندما اقترح بنيامين ستورا في تقريره حول الذاكرة، للرئيس إيمانويل مكرون بالاعتراف بجريمة قتل الشهيد علي بومنجل، ندد روطايو بموقف الجزائر المطالب بالاعتذار، قائلا: “لقد ضقت ذرعا بمن يقولون أشياء فظيعة عن بلدي فرنسا”، وكأنه لا يتحمل أن نتكلم عن الماضي المأساوي والوحشي للاستعمار الفرنسي.
هو نفسه الذي قدم مقترح لإصدار لائحة على مستوى مجلس الشيوخ، عملا بالفصل 34-1 من الدستور يدعو السلطات الفرنسية إلى الانسحاب من الاتفاقية الفرنسية الجزائرية المؤرخة 27 ديسمبر 1968، وذلك في شهر جوان 2023.
فالذين يمجدون أطروحة الجزائر الفرنسية، يتغاضون الحديث عن الجرائم، ويحاولون تصوير الجيش الفرنسي ومن ساعده في إجرامهم على هيئة الضحية، ويصبون جام غضبهم ضد الجزائر التي قررت يوما ما المقاومة والمطالبة بالاستقلال.
اليمين المتطرف.. والآخر
إن المخيال الفرنسي يحمل في ثناياه جوانب من النزعة العلية (Suprémacisme) تجاه ما هو أجنبي، وخاصة الجهة الجنوبية لأوربا، حيث المستعمرات القديمة، ولعل هذا الأمر الذي يجل أنصار اليمين المتطرف ينكر الهمجية الاستعمارية ويصورها على أنها محاولات لتهذيب الأجناس الأخرى، عن طريق الاستعمار.
في دواليب اليمين المتطرف نجد السياديين (Les Souverainistes)، الذين يمجدون تاريخ فرنسا، سواء الحقب الإمبراطورية والملكية، أم ما تعلق بالحقب الجمهورية بعد الثورة الفرنسية، بحيث إنهم ليسوا مستعدين لأن تعترف فرنسا بجرائمها في الحقب الغابرة.
بالنسبة للقوميين (Nationalistes)، يعتبرون أي اعتراف بالذنب بمثابة جلد الذات، وهو في حد ذاته انكسار وخنوع للذات الفرنسية العليا، وهذا ما عبرت عنه مارين لوبان وأتباعها عن حزب التجمع القومي (Rassemblement National)، سليل الجبهة القومية.
قد نجد أيضا من هذه الأطياف في التيار اليساري، التقليدي، الذي يمتاز بنوع من النفاق التاريخي والثقافي، متنصلا عن مبادئه الإنسانية.
يبقى هذا الصوت المتزمت سيد الموقف في الإدارة الفرنسية، رغم تصاعد أصوات الأجيال الشابة التي تريد طي صفحة المأساة الاستعمارية، والتحلي بالشجاعة اللازمة للنظر في مرآة التاريخ، لأن التاريخ يحمل في طياته ما هو مشرف وما هو مقزز.
هل يمكن تجاوز الحقائق التاريخية؟
لقد أريد لهذه اللجنة، مبدئيا، توثيق للتاريخ والوصول إلى رؤية يتفق عليها الجميع، من حيث صحتها، ولكن بالنسبة للجزائريين، التاريخ واضح، والشواهد التي تدين الاستعمار كثيرة وعديدة، ففي كتاب مهم بعنوان “الدليل الأبجدي في طور التكوين: الإيديولوجية الاستعمارية واللغة الفرنسية” (Abécédaire en devenir: Idéologie coloniale et langue Française) للباحثة كريستيان شولي عاشور، الصادر عن المؤسسة الوطنية للكتاب عام 1985. تتناول الباحثة الجرائم الاستعمارية منذ السنوات الأولى للاجتياح، ويعد هذا الكتاب، في اعتقادي، مرجعا توثيقيا لهذه الجرائم التي لا ولن تسقط بالتقادم. بالإضافة إلى كتاب للباحثة الفرنسية إيفون تورين (Yvonne Turin)، كان مرجعا معتمدا في الجامعة الجزائرية، منذ الثمانينيات، من القرن الماضي، بعنوان “المواجهات الثقافية في الجزائر الاستعمارية” ( 1830-1880Affrontements culturels dans l’Algérie coloniale)، الصادر أيضا عن المؤسسة الوطنية للكتاب سنة 1983، والقارئ لهذا الكتاب يستشف لأول وهلة إنجازات الإدارة الاستعمارية في ميادين التعليم، الصحة والتهيئة العمرانية، ولكن يكشف لنا عن هول المشروع الاستعماري في تفكيك الهيكلي للدولة وللمجتمع الجزائري آنذاك، باستعمال المنظومة القانونية والعسكرية، أو بالأحرى ما سماه المفكر الفرنسي لوي ألتوسر (Louis Althusser) ” أجهزة قمع الدولة”، من مدرسة، القوة الأمنية، المؤسسة الثقافية.. إلخ