-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هل ضلّت الحضارة الغربية طريقَها في أمريكا؟

بقلم: أحمد سريرات
  • 393
  • 0
هل ضلّت الحضارة الغربية طريقَها في أمريكا؟

 في القرن الماضي بلغت الإنسانية مستوى من الوعي الجماعي حول أهمية العقل في بناء الحضارة، ما جعل الحضارة تأخذ بعدا عالميا في التطور تسهم فيه كل الأمم، والفضل يعود إلى الأمة التي هيأها الله منذ عهد بعيد لاستيعاب وتبني الفكرة العقلية في التفكير، وهي الأمة التي تضم الشعوب الأوروبية التي نشأت على الفلسفة اليونانية القديمة في ظل ظروف تاريخية مختلفة وصعبة مليئة بالتحديات الوجودية.

والذي شجّع على بروز البعد العالمي في الحضارة الإنسانية هو في الحقيقة الإسلام، الذي أنشأ من قبل نموذجًا حضاريًا بروح جديدة، تجاوز به حدود المنطقة العربية البدوية إلى فضاءات الحضارات السابقة بكل عزة وثقة، فألغى في كل مكان رسخت فيه أقدام المسلمين المبشرين برسالة الله كلّ الحواجز التي عطّلت العقل البشري عن الإبداع والعطاء.

واليوم تبدو الحضارة الغربية بدون روح بالرغم من حداثة ظهورها وأمل البشرية فيها، فعملية بسط هيمنتها على جميع الأمم تمرّ بأزمات خطيرة على العالم في كل مرة تحاول فرض هيمنتها بالقوة والعنف. وهذا بعكس الحضارة الإسلامية التي مكثت طويلا ولم تنقطع بركتها على الإنسانية، بفضل حيوية الروح التي اكتسبتها الشعوب المسلمة من الإسلام بالرغم من اختلاف أجناسها وثقافاتها، فتداولوا على القيادة فيكلّ مراحل الخلافة الإسلامية الطويلة، دون أن يغيّروا دينهم أو يكفروا بالله وباليوم الآخر.

فشل أمريكا في الحفاظ على روح الحضارة الغربية

الأمة الأوروبية لماّ غرتها البيئة الأمريكية الجديدة والغنية، فوجدت فيها فرصتها لانطلاقتها الحضارية الفعلية ومركز انتشار مبادئ فلسفتها في الحرية والديمقراطية إلى العالم، لم يكن في حسبانهم أنّ الذين ذهبوا ليعمروا أمريكا إنمّا ذهبوا لتحقيق مشاريع تجارية وليس حضارية. فالحلم الأمريكي الذي استقطب الناس من كل بقاع العالم خلق مشكلة للحضارة الغربية في مسألة نشر روحها الجديدة في العالم وفق مبادئها الإنسانية التي انطلقت منها، لأنّ التطور العلمي والتكنولوجي السريع في ظل حرية المبادرة أصبح حافزه ماديّاً بحتًا تحت تأثير أرباب المال والأعمال، ممّا جعل البراغماتية الأمريكية تهمّش شيئا فشيئا القيم الإنسانية النبيلة والمبادئ الأخلاقية الشريفة.

وتحوّل ذلك التوجه المصلحي الدنيوي المفرط إلى منهج سياسي في نظام دولة الولايات المتحدة الأمريكية، بعد فكّ ارتباط الدولار الأمريكي بالذهب في عام 1971 (نهاية نظام بريتون وودز) وظهور مفهوم البترودولار في عام 1973، بعد أن تمّ التوصل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة والمملكة والعربية السعودية يقضي ببيع النفط حصريًا بالدولار، مما عزّز الطلب العالمي على هذه العملة، فطغت بذلك مظاهر هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي وصار أداة ترهيب ومضاربة وابتزاز في العلاقات الدولية.

فشل أمريكا في اختبارات المسؤولية الحضارية

وقد مرّ الغرب عموما وأمريكا بالخصوص باختبارات قاسية مع شعوب مستضعفة في فيتنام وأفغانستان والعراق عسى أن يراجعوا مواقفهم الإنسانية والتزاماتهم الحضارية، ولكن دون جدوى. فجاءت أحداث غزة وصمود الشعب الفلسطيني البطل لتفاجئهم وتبعثر أوراق خططهم الإستراتيجية في المنطقة العربية، وتذكّر العالم بوجود روح حضارية أخرى مهملة تستطيع أن تفضح زيف مبادئ الغرب الذي يتباهى بمجده في أمريكا.

وأعطى الله أملا للمستضعفين في الأرض في قدرتهم على المقاومة والصمود لتداعيات ظلم هذه الهيمنة، من خلال نموذج تضحيات الفلسطينيين في غزة وانتصارهم المعنوي على الصهاينة وحلفائهم، وكأنّ غزة جعلها الله هي اللّحد الذي يسقط فيه المجد الأمريكي الزائف وذَنَبه الصهيوني، تمامًا كما حدث مع الثورة التحريرية المجيدة في الجزائر التي أسقطت الاستكبار الفرنسي في بداية الخمسينات من القرن العشرين.

مؤشرات النهاية

واليوم نلاحظ بكل أسف أنّ خرجات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الإعلامية وقراراته الاستفزازية للعالم وللمنطقة العربية بالخصوص، تؤشر على أنّ الحضارة الغربية تستعجل نهايتها بعد عمرها القصير، فقد بلغت تحت قيادة الولايات الأمريكية المتحدة حالة من الانحدار الأخلاقي والطغيان ما قد يعرّض أصحاب هذه الحضارة الغربية في كل لحظة إلى مواجهة تداعيات القانون الرباني المذكور في الآية الكريمة:﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾]الإسراء[16 :.

فأجل هذه الأمة الغربية قد دنا فعليا لماّهمّ الأوروبيون بالتنازل عن قيادة حضارتهم لأمة جذورها التاريخية والثقافية هشّة، وعمرها لا يتجاوز ثلاثة قرون – إذا اعتبرنا أن الأمة الأمريكية تشكّلت مع إعلان استقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا في عام1776، وإلى إقرار الدستور الأمريكي في عام 1787.

ويجدر بالذكر أنّ أقوى فئة في المجتمع الأمريكي هي نخبة المترفين الذين لا دين لهم سوى المال والأعمال ونشر الأوهام والأباطيل عبر آلة الإعلام وشاشات السينما حول عظمة أمريكا المصطنعة، فلا غرابة في هزيمتهم الحضارية في غزة أين اصطدموا بالإسلام الفطري الحضاري، من خلال تجليه في مجتمع صغير ومعزول عن العالم، لا ملجأ له إلاّ إيمانه بالله وباليوم الآخر.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!