هل لدينا الوعي الجيوسياسي اللازم؟

لعلّ أهمّ إدراك ينبغي أن نتحلى به اليوم إنما هو ذلك المتعلق بالوعي الجيوسياسي. أكثر المشكلات التي تُعاني منها دول الجنوب، بل وحتى دول الشمال لها علاقة بالمسائل الجيوسياسية بالنظر إلى الترابطات الكبيرة التي أصبح يعرفها العالم، بل يمكن القول إن أزمات الكثير من الدول اليوم إنما هي ذات علاقة بأخطاء في خياراتها الجيوسياسية، بعضها يدفع الثمن غاليا في شكل تَمَوقع مع القوى الكبرى مثل بلدان الخليج، إذ تهدر تريليونات الدولات فقط بسبب الإبقاء على توازنها في هذا المجال، وأخرى تدفع الثمن في شكل مواجهة حصار غربي اقتصادي وعقوبات لا ترحم بسبب رفض اصطفافها الكلي مع الغرب مثل إيران، وثالثة تدفع الثمن في شكل حرب ضروس تخسر معها عشرات الآلاف من الأرواح وتريليونات الدولارات من الخسائر مثل روسيا، بسبب محاولتها المستمرة تعديل الواقع الجيوسياسي المفروض عليها، ورابعة تدفع الثمن غاليا في شكل عزلة دولية تامة بعيدا عن التنمية والتقدم بسنوات، مثل بعض البلدان الإفريقية الفقيرة…
فقط هي الصين والولايات المتحدة اليوم القوتان الوحيدتان القادرتان على امتلاك قدرة عدم الاصطفاف السياسي الاستراتيجي التامَّين لِما تملكان من عناصر قوة اقتصادية وعسكرية وسياسية متكاملة، ولكونهما ترتكزان على نظامين سياسيين متماسكين داخليا في حدود كبيرة رغم الاختلاف في طبيعتهما. أما باقي دول العالم فالأفضل بينها هي تلك التي مازال بمقدورها المناورة ضمن فضاءات الصراع الجيوسياسي العالمي من دون أن تتعرض للمخاطر، ومن أمثلة ذلك ألمانيا وإيطاليا في أوروبا والهند وماليزيا وفيتنام في آسيا.
أما المثال الأوضح للفشل في التعامل مع الواقع الجيوسياسي الدولي فيتجلى في التجربة السورية السابقة والحالية. في السنوات السابقة لم تتمكن سوريا من إيجاد تموقع جيوسياسي في صالحها بين النماذج العالمية (الأمريكي والصيني) والنماذج الإقليمية (الروسي والتركي والإيراني) والنماذج المحلية (الخليجي والعربي)، فعرفت ما عرفت من حرب أهلية انتهت إلى ما انتهت إليه، واليوم هي مرة أخرى في وضع جيوسياسي صعب للغاية يمكنه أن يؤدي بها إلي الوقوع في شراك الاستقطاب الكلي تجاه أمريكا، مما قد يُفقدها هويتها الوطنية الجيوسياسية ويُغيِّر من تاريخها الوطني المتميز بقيادة منطقة الشام وأداء دور محوري في العالم العربي وفي المنطقة، وبذلك تكون كمن يعرف مسبقا أن تضحياته السابقة واللاحقة ستذهب سدى ولا يستطيع منع ذلك.
هذا المثال السوري، فضلا عن الأمثلة الأخرى عبر العالم، ينبغي أن يُلهمنا جميعا للتفكير في بدائل واعية للتعامل مع هذا الواقع الجيوسياسي والجيواستراتيجي في عالم اليوم. وسواء كُنّا في الجزائر أو مصر أو ليبيا أو العراق أو جنوب إفريقيا أو غيرها من دول الجنوب العالمي ممن كانت تاريخيًّا تتطلع باستمرار إلى رفض الاصطفاف الجيوسياسي، ليس أمامنا من بديل سوى إدراك هذه المسألة إدراكا واعيا وواقعيا للتعامل معها بذكاء دبلوماسي واقتصادي وسياسي وأمني، حتى لا نرتكب أخطاء في هذا المجال يصعب تحمل تكاليفها.
لقد وقع السودان الشقيق في مثل هذا الخطأ، ونحن نرى الثمن الذي يدفعه اليوم، ونرى بلدانا أخرى قريبة من الوقوع فيه، بتحريض مِمَّن لا يريدنا أن نخرج من هذه المعركة منتصرين، وذلك من خلال التأثير على وعينا في هذا المجال ومن ثَم على خياراتنا… لذا بات من الضروري اليوم إيلاء هذه المسألة الأهمية اللازمة من خلال البدء بسؤال أنفسنا: هل نحن مدركون للعبة الاصطفاف الجيوسياسي والجيواستراتيجي الدولي؟