همّ الرّزق (1)

هموم كثيرة نحملها في هذه الحياة، منها ما هو خفيف الحِمل خفيف الوطأة على القلوب، ومنها هموم تثقل كواهلنا وتوهن أبداننا وتؤرّق ليلنا، ولعلّ من أكثرها وطأة على قلوبنا وحتى أبداننا: همّ الرزق؛ هذا الهمّ لا يكاد ينزل عن كواهلنا أو يغادر قلوبنا بالنهار ولا بالليل؛ نتحدّث عنه مع النّاس ونفكّر فيه إذا خلونا وإذا حللنا أو ارتحلنا، بل إنّ منّا من يفكّر فيه وهو في صلاته بين يدي ربّه. أصحاب الرواتب يشكون أنّ الرواتب لا تكفي ولا تفي، وأصحاب التجارات يشكون ثقل الضرائب وكثرة المنافسين وتكاثر المدينين وتزايد المنافسين وكساد السّلع…
ليس حراما أن يكره العبد الفقر ويحبّ الغنى، هذه فطرة في النّفس البشرية. والنبيّ الخاتم –صلّى الله عليه وسلّم- كان يتعوّذ بالله من الفقر فيقول: “اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بك من الفقرِ والقِلَّةِ والذِّلَّةِ، وأعوذُ بك من أن أظلِمَ أو أن أُظلَم”.. وليس حراما أن يفكّر العبد في رزقه، ويحمل همّه ويخطّط للوصول إليه، فالله -جلّ وعلا- أمر بالسعي في الأرض طلبا للأرزاق، فقال جلّ من قائل: ((هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)). بل حتى في يوم الجمعة أمر بالسعي في طلب الأرزاق بعد انقضاء الصّلاة، فقال سبحانه: ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ))، بل فوق هذا رتّب على السعي في طلب الرزق عظيم الأجر، وقد روى الطبراني أنّ النبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وأصحابه مروا برجل، فرأوا من جلَدِه ونشاطِه، فقال بعض الصحابة: يا رسولَ اللهِ لو كان هذا في سبيلِ اللهِ؟! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: “إنْ كان خرج يسعى على ولدِه صغارًا فهو في سبيلِ اللهِ، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيلِ اللهِ، وإنْ كان خرج يسعى على نفسِه يعفُّها فهو في سبيلِ اللهِ، وإنْ كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيلِ الشيطانِ”.
ليس حراما أن يحمل العبد همّ رزقه، بل إنّ ذلك من القربات، لكنّ الحرام أن يصبح الرّزق هو الهمَّ الأكبر والأوحد الذي يحمله عبد مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر ويوقن بأنّ هناك موتا وقبرا وقيامة وحسابا وجنة ونارا، تصبح “خبزة الأولاد” همّه الأوحد حتى ينسى معه همّ الآخرة، ويضيّع صلاته ويهجر كتاب رحمه ويمسك يده عن الصّدقات، وحتى يتجاوز الحلال إلى الحرام، وحتى يقطع رحمه لأجل رزقه!
من فضل الله الكريم –سبحانه- أنّه ضمن لكلّ عبد رزقه، قال – جلّ وعلا -: ((وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ))، وقال تعالى: ((وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا))، وقال نبيّه الخاتم –عليه الصّلاة والسّلام-: “إنّ جِبريلُ نَفَثَ في رُوعِي: إنَّه لا تَموتُ نفسٌ حتى تسْتكمِلَ رِزْقَهَا وإنْ أبطأَ عليهَا”؛ فالرزق مضمون ما دام الأجل ممدود.
وكيف ينسى الرزاق الكريم –سبحانه- عبده، وهو –تعالى- لم ينس النّملة الصغيرة الضعيفة بين تلك الأعداد الكبيرة من الحشرات القوية والسامّة، ولم ينس العصفور الصّغير بين تلك الأعداد الهائلة من الطّيور الجارحة، ولم ينس السّمكة الصغيرة الضعيفة بين تلك الأعداد من الحيتان وأسماك القرش الفتّاكة، ولم ينس حيوانات ضعيفة وسط أصناف شتّى من الحيوانات المفترسة؟
الله – جلّ وعلا – قد ضمن الرّزق لكلّ مخلوق ذرأه في الكون الفسيح، لكنّه سبحانه لم يجعل رزق عباده ينزل من السّماء، بل أمر بالسّعي في طلبه، حتّى يعامل النّاس بعضهم بعضا، وينتفع بعضهم ببعض، ويخدم بعضهم بعضا، ويتخذ بعضهم بعضا سخريا، قال تعالى: ((نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)).
مطلوب من العبد أن يحمل همّ رزقه، ومطلوب منه أن يسعى في طلبه، لكن لا يجوز أن يتحوّل الرزق إلى هاجس يسكن حياة العبد، ويؤرق ليله ويأخذ كلّ أوقاته، ويجعله ينسى كلّ همّ آخر، ويركض خلف المال ركضا أعمى، ويضيّع دينه وينسى أمّته ويذهل عن آخرته. تصبح الخبزة منتهى همّه وغاية أمانيه، بل يصبح عبدا للمال، المهمّ أن تصل يده إليه ويظفر به ويضعه في حسابه أو جيبه، لا يهمّه أن يكون حلالا أو حراما، ولا يعنيه أن يكون حقا خالصا له أم تكون فيه حقوق أناس آخرين. يفرح إن حصّله وظفر به، ويحزن ويموت كمدا إن فاته حظّ منه، بل يصل به الأمر إلى إضرام الخصومات وإيقاد العداوات مع إخوته وأرحامه وكلّ من يعاملهم، لأجل المال. ويصل به الأمر إلى إضاعة صلاته وتأخيرها عن وقتها وجمعها ونقرها في آخر الليل، وعذره دائما هو: “الله غالب. خبزة الأولاد”!
واللهُ – جلّ وعلا – قد ذمّ مَن هذه حاله، ونهى عن الركون إليه ومصاحبته، فقال – سبحانه -: ((فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الحَيَاةَ الدُّنْيَا))، وأعلن –سبحانه- على لسان رسوله –صلّى الله عليه وسلّم- بغض ومقت هذا الصّنف من النّاس، قال –عليه الصّلاة والسّلام-: “إن الله يبغض كل جعظري جواظ (الجعظريّ هو الذي يجمع ويمنع، والجواظ هو الذي يتعالى ويستكبر بما جمع)، صخاب بالأسواق، جيفة بالليل حمار بالنهار، عالم بالدنيا جاهل بالآخرة”، وتوعّده –سبحانه- بأن يملأ قلبه فقرا وخوفا ويفرّق عليه شمله: يقول النبيّ –صلّى الله عليه وسلّم-: “من كانت الدُّنيا همَّه، فرَّق اللهُ عليه أمرَه، وجعل فقرَه بين عينَيْه، ولم يأْتِه من الدُّنيا إلَّا ما كُتِب له.. ومن كانت الآخرةُ نيَّتَه، جمع اللهُ له أمرَه، وجعل غناه في قلبِه، وأتته الدُّنيا وهي راغمة”.
يُتبع بإذن الله…