-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

همّ الرّزق (2)

سلطان بركاني
  • 439
  • 0
همّ الرّزق (2)

لعلّ أعظم سبب لتعلق قلوب كثير منّا بالدّنيا وخوفهم حدّ الهوس على أرزاقهم وأرزاق أبنائهم؛ ظنَّهم أنّ الأرزاق هي فقط المال الكثير والأعراض التي تشترى بهذا المال من مسكن وسيارة وأثاث وطعام ولباس، وأنّ السعادة لا تتحقّق إلا بالمال.. وهذا ظنّ خاطئ وفهم قاصر للحياة الدّنيا ولسنّة الله فيها.
هناك أرزاق كثيرة أنزلها الله ومنحها كثيرا من عباده، لكنّنا نغفل عنها ولا نعدها رزقاً: الزوجة الودود الطيّعة المواتية المواسية الحنون التي تقصُر طرفها على زوجها ويملأ زوجها عينها، هذه رزق.. الزوج الشّفيق الحريص على صلاح بيته وعلى كفاية زوجته هموم الدّنيا رزق.. الولد البارّ بوالديه الشغوف بحفظ القرآن المتخلق بأخلاق وآداب الإسلام، رزق.. البنت التي تتربّى على الحياء والسّتر والعفاف وتسعى لأن تأخذ بيد أبيها وأمّها إلى الجنّة ولا تغرّها المظاهر الفانية، هذه رزق.
عندما يأوي العبد إلى بيت يجد فيه زوجة مبتسمة وأبناء كالورود، لا خصام ولا عداوة بينهم، فهذا رزق؛ فكم من العباد حُرموا نعمة البيوت، وكم من العباد حرموا نعمة السكينة في بيوتهم.. عندما يجد العبد في بيته طعاما يلتذّ به فيأكل منه حتى يشبع، فهذا رزق حُرمه ما لا يقلّ عن 900 مليون جائع أنزل الله رزقهم ولكنّ أهل الجشع سرقوه.. عندما يقوم العبد من مكانه ويسعى بقدميه حيث شاء في صحة وعافية، فهذا رزق حُرمه الملايين من المبتلين بالإعاقات والأمراض ومن المستلقين على الأسرَّة البيضاء في المستشفيات المتأوهين من الأوجاع والأسقام.. عندما يضع العبد رأسه على الوسادة فيأتيه النّوم ويهنأ بنومه بعيدا عن الهموم والغموم، فهذا رزق.. عندما يبصر العبد بعينيه ويرى أبناءه وأحبابه ويرى طريقه إلى المسجد وإلى السوق ومكان العمل، فهذا رزق حُرمه ما لا يقلّ عن 40 مليون إنسان في هذا العالم.
الرّزق ليس مالا فقط؛ الصحّة رزق، والأمن رق، والسكينة رزق، والعافية رزق، والأخلاق الحسنة رزق، والقناعة رزق، والرضا عن الله فيما أعطى وفيما منع رزق من أعظم وأنفع وأوفر الأرزاق.. والبركة رزق، وهي من الأرزاق التي نسيناها في زماننا هذا، حين أصبحنا وأمسينا نتنافس في الأرقام وننسى شيئا اسمه البركة.
البركة إذا حلّت في القليل كثّرته، وإذا نزعت من الكثير محقته.. كم من أناس يستفيدون من رواتب قليلة ولكنّها مباركة ترى أصحابها يحمدون الله عليها ليل نهار، ويقضون بها مصالح ومآرب كثيرة، وكم من أناس يديرون تجارات صغيرة ولكنّ البركة جعلت أرباحها وفيرة.. وفي المقابل كم من أناس يستفيدون من رواتب مجزلة ولكنّهم يشكون بالليل والنهار أنّها لا تكفيهم، وأنّ الدّيون لا تفارق كواهلهم، وكم من أناس يمتلكون تجارات ضخمة والهموم والغموم لا تفارقهم، والخوف من الخسارة يؤرّقهم!
البركة رزق يمنحه الله لمن توكّل عليه وحرص على لقمة الحلال واجتنب الحرام، وينزعها من كلّ عبد خالط الحرام، وخلط الحرام إلى الحلال، كمن يتهاون في وظيفته ويغيب لأتفه الأسباب ويسرق من وقت العمل، أو كمن يغشّ في تجارته فيري النّاس شيئا ويزن لهم من آخر، أو من يبيع الدخان، أو من يأخذ الرشوة أو القروض الربوية… فهذه كلّها أرقام تدخل إلى الحسابات وإلى الجيوب، ولكنّ البركة تنزع منها فلا يستفيد منها صاحبها شيئا، بل قد يعاقب بها في العاجلة قبل الآجلة فيبتلى بالأمراض والهموم والمصائب ويبتلى في أهله وأبنائه، مع الحساب العسير الذي ينتظره يوم القيامة حين يوقف ليسأل عن كلّ دينار منها من أين أخذه؟
الحرام شؤم في الدّنيا وعذاب في الآخرة، وهَن في البدن وضيق في الصدر وقسوة في القلب وتشتّت في الشّمل، لذلك عندما تحدّث النبيّ –صلّى الله عليه وسلّم- عن الأرزاق المضمونة، حذّر من قرب الحرام، فقال: “إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفثَ في رُوعِي أنَّ نفسًا لَن تموتَ حتَّى تستكمِلَ أجلَها، وتستوعِبَ رزقَها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حلّ ودعوا ما حرم” (صحيح الجامع)، ومعناه أنّ الرزق مضمون ومقدّر، فإن حرص العبد وصبر، أخذ رزقه كاملا في الحلال وهنئ به، وإن أطاع نفسه وشيطانه وتسرّع، أخذه من الحرام وعوقب به في الدّنيا والآخرة.
من أراد البركة وراحة البال واجتماع الشّمل ولين القلب، فليكن أحرص ما يكون على أن يأخذ رزقه من الحلال. مهما رأى النّاسَ من حوله أقاربَه وأصدقاءه يتنافسون في الحرام ويبنون أوسع المساكن ويركبون أفره السيارات؛ فلا يغرّنه ذلك، بل يصبر ويسأل ربّه أن يكفيه بحلاله عن حرامه، فالدّنيا قصيرة لا تساوي أمام الآخرة شيئا يذكر، والحرص على الحلال عبادة يحبّها الله ويرتضيها من عبده، وقد يبلغ العبد يوم القيامة بحرصه على لقمة الحلال منازل الصائمين القائمين، وفي المقابل قد يتعبّد العبد ويحرص على الصّلاة والحجّ والعمرة، ثمّ يجد يوم القيامة ما لم يكن يحتسب وما لم يكن يتوقع، لأنّه كان لا يبالي مطعمه من حلال أم من حرام، وقد كان الإمام يوسف بن أسباط –رحمه الله- يقول: “إذا تعبد الشاب يقول إبليس: انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعمه مطعم سوء، قال: دَعُوه، لا تَشتغلوا به، دَعُوه يجتهد ويَنْصَب، فقد كفاكم نفسَه”، وكان الإمام وهيب بن الورد –رحمه الله- يقول: “لو قمت مقام هذه السارية، لن ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل في بطنك حلال هو أم حرام”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!