-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هِـلْبرت يُنافس… آينشتاين!!

هِـلْبرت يُنافس… آينشتاين!!
ح.م
ديفد هلبرت

جرّنا الحديث في مقالات سابقة إلى آينشتاين (1879-1955) ونزاهته.. وقد ارتبط جزء من أعماله بعمل الألماني ديفد هلبرت Hilbert (1862-1943). وإذا كان مؤرخو العلوم لا يزالون يبحثون -منذ احتدّ النقاش عام 2005 (السنة الدولية للفيزياء الموافقة للذكرى المئوية لظهور نظرية النسبية)- في موضوع نزاهة آينشتاين واتهامه بالاستحواذ على أفكار علماء آخرين، منهم لورانتز Lorentz (1853-1928) وبوانكريه Poincaré (1854-1912) وهلبرت، فإن هذا الأخير تميّز بكونه لم يوجّه له أحد تهمة من هذا القبيل.
وهلبرت ذائع الصيت لدى المختصين، ويعتبرونه “آينشتاين الرياضيات”، حيث يصنفونه في المرتبة الأولى بين رياضياتي القرن الـ20. بل ذهب بعضهم إلى تسمية القرن العشرين بـ” قرن هلبرت” ! فمن أين له هذا التألق؟

محاضرة عام 1900

بدل إلقاء محاضرة تقليدية، فضّل هلبرت عام 1900 تقديم -أمام 250 رياضياتيا في المؤتمر الدولي الثاني للرياضيات- قائمة من 23 مسألة معقّدة من شأن البحث فيها أن ينمي مختلف جوانب الرياضيات. وكذلك كان الحال. فمنذ ذاك التاريخ انشغل الباحثون بتلك المسائل العويصة فظهرت عديد الفروع الرياضياتية الجديدة!
يقول هلبرت في محاضرته التاريخية مستعرضًا برنامجه ومخاطبًا كبار باحثي عصره : “إننا نسمع من أعماقنا صوتا ينادينا بالنداء الخالد: “هذه هي المسألة”. فابحثوا عن الحل! إنكم قادرون على إيجاده بالحجة والاستدلال، لأن الرياضيات لا تعرف عبارة ”لن نعلم””!
ويرى المتمعّنون في تطوّر رياضيات القرن العشرين أن طرح تلك المسائل أحدث ثورة عارمة في هذا العلم أعطته دفعا قويا ترتب عنه إنتاج غزير في جميع الاختصاصات.
ولهذا اقترح العلماء أن تكون سنة 2000 -وهي الذكرى المئوية لتلك المحاضرة- “السنة الدولية للرياضيات”. وتبنّت الأمم المتحدة هذه الفكرة لإعادة تجربة هلبرت عسى أن تفتح أبوابا جديدة أمام رياضياتيي القرن الـ 21. وقد لبّت مختلف الهيئات آنذاك هذه الدعوة وأقيمت مؤتمرات ناهز عددها الألف عبر العالم!

23 مسألة

وجاء في محاضرة هلبرت : “لننظر إلى مبادئ التحليل والهندسة… أوجّه عنايتكم أولا إلى جملة من المسائل ذات الصلة بهذه الحقول”. ثم سرد هلبرت 23 مسألة عرفت فيما بعد باسمه… كل واحدة منها تعتبر مشروعا علميا ضخما قائما بذاته.
وقد أنهى هلبرت محاضرته بالقول : “إن الوحدة العضوية للرياضيات متواجدة في طبيعة هذا العلم، ذلك أن الرياضيات هي أساس كل معرفة دقيقة لأية ظاهرة طبيعية. ولذا يمكنها أن تؤدي هذه المهمّة النبيلة. أتمنى أن يأتي لها القرن الجديد بموهوبين متحمسين”!
وبعد مرور 118 سنة ظلت 5 مسائل من القائمة بدون حل… كما لم تُُقدَّم لـ 7 منها سوى حلول جزئية يسعى العلماء إلى استكمالها!!
لقد أدت مسائل هلبرت دورا فعالا في تنشيط البحث في الرياضيات وجعلت أحد الأثرياء يبادر بتمويل جائزة بسبعة ملايين دولار من أجل حل 7 مسائل رياضياتية مستعصية. وتيمُّما بهلبرت الذي أعلن عن مسائله عام 1900 بباريس فقد تم في باريس الإعلان عن هذه المسائل السبع عام 2000 تحت شعار “من أجل تنمية ونشر المعرفة الرياضية”. ولحد الآن لم تُحَل سوى مسألة واحدة من تلك المسائل.

من مواقف هلبرت

يُحسَب لهلبرت أنه وقف بقوة إلى جانب الألماني جورج كانتور Cantor (1845-1918)، رائد نظرية المجموعات الحديثة التي لم يتقبلها العلماء آنذاك! لقد أدى الهجوم العنيف الذي شنّه العلماء على نظرية كانتور إلى اختلاله العقلي ولجوئه إلى مستشفى الأمراض العقلية حيث هلك قبل أن يرى ثمرة جهده تشغل دنيا الرياضيات!
ويُحسَب لهلبرت موقفه من السيدة إمّي نوثر Noether (1882-1935). ذلك أن القانون كان يضيّق الخناق على دخول الإناث إلى الجامعة. وإلحاح نوثر جعل الإدارة تسمح لها بالدراسة شريطة موافقة أساتذتها. وهكذا كانت تضطر إلى طلب الإذن من كل أستاذ على حدة! وبعد انتهائها من دراستها، تم رفض طلبها التدريس بجامعة غوتنغن لكونها امرأة لكن هلبرت سمح لها بالإعلان عن محاضراتها باسمه كي لا تصدم الجمهور. ومما يبيّن حدة هذه المعارضة أن أحد الأساتذة صاح منددًا بإمكانية قبول نوثر بالجامعة قائلا : “ماذا سيقول جنودنا عندما يعودون [من الجبهة] إلى الجامعة ويجدون أنهم سينهلون العلم عند أقدام امرأة”؟ ومن المعلوم أن نوثر كانت من أكبر علماء الرياضيات في القرن الـ20.
تقاعد هلبرت عام 1930 وكانت جامعة غوتنغن آنذاك أشهر مركز للرياضيات في العالم. وفي تلك الفترة برزت النازية، ومع أن هلبرت كان يهوديا فلم يغادر ألمانيا حتى وفاته رغم الدعوات الملحة إلى العمل بالخارج؛ بل يُروَى أنه كان إلى جانب وزير العلم والثقافة النازي برنهارد روست Rust (1883-1945) عام 1934 خلال حفل فسأله الوزير : “ما رأيك في وضع الرياضيات بجامعة غوتنغن بعد أن تخلصت من التأثير اليهودي؟” فأجاب دون خوف : “الرياضيات في غوتنغن؟ لم تعد موجودة !”. ومعلوم أن الرياضيات بالجامعة تقهقرت في ذلك الوقت بعد أن هجرها عدد كبير من أساتذتها متجهين نحو أمريكا.
اهتم هلبرت مبكرًا بالفيزياء ونظرياتها، ويُذكر أنه صرح : “الفيزياء صعبة على الفيزيائيين” منبهًا إلى الصعوبات التي يواجهونها في استعمال الرياضيات. وما يدعم هذا الرأي أن آينشتاين ابتهج عندما استضافه هلبرت وألقى محاضراته أمام الرياضياتيين في جامعة غوتنغن لأنه شعر بأن هؤلاء استوعبوا محاضراته أفضل من الفيزيائيين!
وبعد هذا التميّز، نتصوّر أنه لو تقرّب هلبرت من بعض اللوبيات ورضوا عنه، ولو لقي من الترويج الإعلامي ما حظي به آينشتاين لتعثّر هذا الأخير في طريقه قبل وصوله إلى ما وصل إليه من مجد وتمجيد!!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • الأستاذ جمال سايس

    لحظة فرار من همج السياسة إلى العقل البشري الراقي
    شكرا يا أستاذ.

  • إبراهيم

    مقال رائع وثمين. لك ألف شكر أستاذنا الفاضل. أبرز ماقدم هيلبرت لتخصص تحليل الإشارة(Signal processing) هو تحويلة هيلبرت(Hilber transform) التي تغير طور الدوال الجيبية بأي درجة ولها إستعمالات كثيرة في الفيزياء.

    في إنتظار مقال أخر عي ديراك، فوريي، لابلاس، بيسل، أو بارنولي، أ'سكرك على المجهود. واصل كتاباتك فهناك من يتلهف لقراءتها ويفهم تفاصيلها.

  • محب السلف الصالح

    شكرا أستاذنا على عذه المقالات الرائعة.

    فعلا, صدق هلبرت "الفيزياء صعبة على الفيزيائيين" آنذاك وحتى اليوم. بصفتي فيزيائي, أقول, التكوين الرياضي للفيزيائيين اليوم أفضل بكثير من 100 سنة مضت. لكن طبعا يبقى الرياضي رياضيا...والفيزيائي فيزيائيا.