وزارة للتعليم العالي وأخرى للبحث العلمي.. حان وقت الفصل! (الثاني والأخير)

إن ما يهمنا هنا في الأبحاث العلمية هو النوعية وليس الكمية، ما جدوى تقديم مائة براءة اختراع هزيلة غير قابلة للتطبيق أو التسويق ولا يمكن تحويلها إلى مشاريع اقتصادية أو إستثمارات تساهم في حل المشاكل المطروحة في هذا وذاك القطاع، وتطوير حياة المواطن ورفع نمو الاقتصاد الوطني؟
المخابر مصادر جديدة للأموال
يجب أن لا نؤجّل فكرة أن تصبح الجامعات ومخابر البحوث العلمية مصادرَ جديدة للأموال، لأنها تأخرت أكثر من اللازم، ومن الضروري استدراك هذا التأخر الكبير، والشروع في العمل في هذا الاتجاه الذي قطعت فيه الدول المتقدمة أشواطا كبيرة، وحتى دول سائرة في طريق النمو قفزت خطوات لا بأس بها… فالأبحاث العلمية هي في الأساس موارد مالية، يمكن الحصول عليها من خلال استثمارها في مشاريع اقتصادية مربحة وذات منفعة، كما أن السير في هذا الاتجاه هو خطوة مهمة للجامعة ولمخابر البحث العلمي لتكون مستقلة بذاتها وبمواردها المالية مستقبلا.
مما لا شك فيه من بين آلاف رسائل الماستر والدكتوراه المكدسة في أرشيف الجامعات ومعاهد التكوين العالي والمدارس العليا، بكل تأكيد هناك أبحاث جادة وذات نوعية، قابلة للتحول إلى مشاريع اقتصادية، فلماذا لا يُنفض عنها الغبار وتُستثمر في مؤسسات صغيرة أو متوسطة وشركات ناشئة أو ما يعرف بـ”ستارتابStartup “، وإن تعذر ذلك، وجب اللجوء إلى بيعها أو بالأحرى تصديرها إلى دول أخرى كمشاريع اقتصادية، المهم أن تستفيد الجامعة أو مراكز البحث من هذه المشاريع العلمية بأي وسيلة أو طريقة ممكنة، تجعل منها إيرادات لها، عوض أن تتآكل في مصالح الأرشيف، والحرص على توفير شروط المنافسة بين الجامعات ومخابر البحث لاحتلال المراتب المرموقة في الترتيب العالمي.
صناعة القوة وصناعة النخبة
إذا كانت الدول المتطورة قد جعلت العلمَ والمعرفة سلاحا قويا، عززت من خلاله نفوذها الاقتصادي والسياسي، فإن الجيش الوطني الشعبي الجزائري له دور كبير وبالغ الأهمية في دعم البحث العلمي والابتكار والارتقاء به، عن طريق تمويل مراكز البحوث، لتطوير الصناعة الخاصة بالأسلحة وعتاد الجيش الوطني الشعبي، مثلما تفعل أغلب الدول المتقدمة والقوية، ومنها تركيا التي تمكنت في السنوات الأخيرة من صناعة أسلحتها وعتادها العسكريين بنسبة 80 %، وأصبحت تستورد منها اليوم 20 % فقط، لكنها في الواقع تتطلع إلى تقليص هذه النسبة المتبقية وبلوغ “100 % صناعة تركية”- في هذا المجال.
إن تمسك الدول القوية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، بفرض عقوبات لمنع بيع الأسلحة أو التكنولوجيا المتطورة لأي دولة لا تتوافق مع رؤيتها وقناعاتها…. والجزائر أشد تمسكا بمبادئها القوية، وبقراراتها السياسية والسيادية، ولا تقبل بطبعها أي إملاءات من الخارج، فإن هذا يفرض عليها ضرورة التحرر من قيود تبعية الصناعة العسكرية، وهنا أستحضر المقولة الشهيرة للشهيد البطل العربي بن مهيدي “لكم الماضي ولنا المستقبل” التي أجدها أبلغ من الخوض في تفاصيل هذه الفكرة، لأنها تتعدى الزمان والمكان.
تدرُّج أبناء المستقبل
لقد كشفت الدراسات أن التشجيع على الإبداع والاختراع يجب أن يكون في سن مبكرة، أي ثلاث سنوات، وأن يُغرس لدى التلميذ في المراحل الأولى من الدراسة، من هنا تكتشف المواهب وتتطور مهاراتهم العلمية، وليس في المراحل المتأخرة التي تجعل مهمة البحث في هذه الحالة صعبة ومرهقة وطويلة، بمعنى يجب تدريب وتشجيع التلاميذ على البحث العلمي، وتأطيرهم وإحاطتهم بالدعم المادي والمعنوي اللازمين، لأن هذا سينمي مهاراتهم الفكرية والإبداعية ويعزز الثقة في أنفسهم وروح القيادة لديهم، وعند دخولهم الجامعة يكون الطالب مهيأ لخوض تجربة البحث العلمي بكل أريحية.
هكذا يمكن صناعة نخب المستقبل التي تستجيب لمتطلبات سوق العمل المحلية والعالمية، هذا ما تفعله تماما الولايات المتحدة الأمريكية التي جعلت البحثَ العلمي مادة أساسية من المرحلة الابتدائية إلى الدراسات العليا، لأن التخصص في النظام التعليمي الأمريكي يبدأ في الجامعة وليس قبل.
مخابر عالمية متخصصة
آن الأوان للتفكير مليا وبجدية في مسألة البحث العلمي في الجزائر، وجعله يرتكز على قواعد وأسس متينة، ويواكب التطورات ويستجيب لمتطلبات العصر. وباعتقادي لن يتحقق ذلك إلا بإنشاء مخابر كبيرة ومتخصصة، بمواصفات عالمية، في الطب وصناعة الأدوية والصناعات الصيدلانية لضمان الصحة المستدامة وطنيا وعالميا وإنسانيا، ومخابر في تطوير الجينات الفلاحية لضمان الاكتفاء الذاتي وبلوغ مرحلة التصدير، كما فعلت روسيا مثلا التي تحولت من دولة مستورِدة للقمح، إلى أكبر وأهم دولة منتجة ومصدِّرة للقمح في العالم… ومخابر أخرى متخصصة في تطوير تقنيات إعادة تدوير النفايات والطاقات المتجددة والصناعات التحويلية، لخلق ثروة جديدة وترشيد استهلاك الموارد الطبيعية والمحافظة على البيئة، ومخابر أخرى متخصصة في تطوير صناعة العتاد العسكري، لنتحرر من التبعية العسكرية والمحافظة على أمننا وحدودنا، وغيرها من المخابر العلمية المتخصصة في القطاعات والمجالات الحيوية التي تطور الاقتصاد الوطني وترفع المستوي المعيشي، وتتوفر على كل المقاييس العلمية العالمية، ومجهزة بأحدث التقنيات المتطورة، وتضخ لها ميزانيات معتبرة، تكون محفزة للعلماء والباحثين، سواء المتواجدين داخل الوطن وحتى من أبناء جاليتنا المقيمة في الخارج؛ إذ لابد من أن تستفيد الجزائر من أبنائها ونخبها وعلمائها وكفاءاتها المتواجدة عبر أنحاء العالم، ممن يشتغلون في أكبر وأشهر مراكز البحوث العلمية العالمية، بالولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبريطانيا وفي العديد من الدول الأوروبية والآسيوية، ممن تستفيد من الأدمغة الجزائرية، وتحفيزهم على المساهمة والمشاركة في عملية تطوير مراكز أو مخابر البحث العلمي بوطنهم الأم.
الدبلوماسية التكنولوجية
فرض التطور التكنولوجي في العالم اقتصادا جديدا، منافسا أو بالأحرى مواز للاقتصاد التقليدي القائم على النفط والغاز، ما أدى إلى بروز الدبلوماسية الرقمية، واستحداث سفارات افتراضية، وسيطرة شبكات التواصل الاجتماعي على المشهد العالمي، واشتعال حرب التطبيقات الالكترونية وثورة رقمية، فمثلما هو معمول به في سفاراتنا في الخارج وبقية الدول الأخرى وجود ملحق اقتصادي، وملحق ثقافي، وملحق سياسي وملحق عسكري، أضحى لزاما أن تسارع الجزائر إلى إنشاء ملحق تكنولوجي في سفاراتنا المتواجدة بالدول التي تشهد تطورا رهيبا في مجال التكنولوجيا والاتصال، والتي باتت تتحكم اليوم في الاقتصاد العالمي، يكون بمثابة همزة وصل بين التكنولوجية العالمية وعلمائنا في الخارج ووزارة البحث العلمي، و قل كل هذه التطورات وأحدث التقنيات المعمول بها في الدول المتقدمة وكذا الخبرات وتطبيقها في الجزائر حتى لا تبقى متأخرة في هذا المجال.
وعليه، فإن تعزيز وتفعيل دور الدبلوماسية التكنولوجية الجزائرية في الخارج، سيؤدي بالضرورة إلى تحقيق الكثير من المكاسب للاقتصادي الوطني، ويجعله ينمو ويتطور بنفس الوتيرة التي تشهدها الدول المتقدمة، إذ ليس من صالح الجزائر أن تبقى بمعزل عن التطور المتسارع الذي يشهده العالم.
غياب التغطية الإعلامية
لا تزال البحوث العلمية مهمشة في وسائل الإعلام، ونادرا ما تخصص لها حيزا في فضاءاتها المتعددة والمتنوعة، ويعد هذا أكبر عائق يمكن أن يواجهه الباحثون أنفسهم، للتعريف بمشاريعهم العلمية ومختلف الاختراعات والابتكارات التي توصلوا إليها، بل إن عدم الاهتمام بالأبحاث العلمية يقتل العزيمة فيهم، وروح المثابرة والاجتهاد لديهم، ولا يشجعهم إطلاقا على المواصلة في هذا المسار. ولتجنب هذه النتائج السلبية التي لا تخدم مصلحة البلاد ولا البحث العلمي ولا الجامعة في حد ذاتها، وجب إخراجها من الظل إلى النور، حتى تتمكن البحوث العلمية من أخذ حقها من التغطية العلمية والنشر والمكانة التي تليق بها، وأن تسخَّر لها وسائل إعلام متخصصة أو موضوعاتية، لإبرازها وتسليط الضوء على الابتكارات وبراءات الاختراعات والترويج لها، والحرص على نشر البحوث العلمية الجزائرية في المجلات الدولية المتخصصة في هذا المجال، لتحسين ترتيب الجامعات الجزائرية في التصنيفات العالمية، وتعزيز المنافسة سنويا بين الباحثين، من أجل الاجتهاد لتقديم الأفضل، وهذا سيؤدي بالضرورة إلى تفعيل حركة النشاط العلمي، بل وإحداث نهضة حقيقية، علمية واقتصادية بين الجامعات ومراكز البحث العلمي، وحتى نظيراتها في الخارج.
الجيش الوطني الشعبي الجزائري له دور كبير وبالغ الأهمية في دعم البحث العلمي والابتكار والارتقاء به، عن طريق تمويل مراكز البحوث، لتطوير الصناعة الخاصة بالأسلحة وعتاد الجيش الوطني الشعبي، مثلما تفعل أغلب الدول المتقدمة والقوية، ومنها تركيا التي تمكنت في السنوات الأخيرة من صناعة أسلحتها وعتادها العسكريين بنسبة 80 %، وأصبحت تستورد منها اليوم 20 % فقط.
تجارب تسويق الإنتاج العلمي
لقد أثبتت تجارب الكثير من الدول، أن الاقتصاد العالمي قائمٌ اليوم على الأفكار والخطط المربحة، التي ترفع معدلات نموه، وتعزز مكانة وقوة هذه أو تلك الدولة في المشهد العالمي، ففي رياضة كرة القدم مثلا، هناك من الدول مَن استثمرت فيها أموالا ضخمة، وأنفقت مبالغ خيالية للحصول على خدمات أقوى اللاعبين وأشهر نجوم الكرة المستديرة من دول أخرى بغضّ النظر عن حجم هذه الدول اقتصاديا أو سياسيا، فالموهبة ليس لها حدود، وضمهم إلى بطولاتها، بهدف رفع المستوى وتحقيق الانتصارات وحصد الكؤوس والألقاب الوطنية والإقليمية والعالمية، التي تستقطب السياح وهواة كرة القدم من مشارق الدنيا ومغاربها، فتجني أموالا وتزيد في حركة ونشاط هذا القطاع، هكذا تصنع السياحة الرياضية!
أضحى لزاما أن تسارع الجزائر إلى إنشاء ملحق تكنولوجي في سفاراتنا المتواجدة بالدول التي تشهد تطورا رهيبا في مجال التكنولوجيا والاتصال، والتي باتت تتحكم اليوم في الاقتصاد العالمي، يكون بمثابة همزة وصل بين التكنولوجية العالمية وعلمائنا في الخارج ووزارة البحث العلمي، و قل كل هذه التطورات وأحدث التقنيات المعمول بها في الدول المتقدمة وكذا الخبرات وتطبيقها في الجزائر حتى لا تبقى متأخرة في هذا المجال.
وهكذا أصبحت المواهب في أي قطاع عملة نادرة وباهظة الثمن، ولأن سياسات الدول تختلف، والأهداف والأفكار كذلك، فضلت الكثير من الدول المتطورة، رصد ميزانيات ضخمة لجلب علماء دول أخرى بغضّ النظر عن جنسيتهم، فوفرت لهم أحسن ظروف العمل، وقدمت لهم كل الدعم وكذا الامتيازات المغرية في سبيل الاستفادة من أبحاثهم العلمية واختراعاتهم، لأنها تؤمن بمدى أهمية ذلك، ومتيقنة أن ما أنفقته لن يساوي شيئا أمام الأرباح التي ستحققها من وراء تسويق إنتاجهم العلمي عالميا، فالثراء ليس فقط بامتلاك الثروات الطبيعية التي تبقى في كل الحالات والأحوال نعمة مهمة وجب تثمينها، لكنها تبقى غير كافية في ظل التحولات السريعة التي يشهدها العالم، من تطوُّر تكنولوجي ومعرفي وصناعي قلّب موازين الاقتصاد العالمي وبات يتحكم فيه اليوم، وهو ما تفطنت له أغلب الدول المتقدمة التي لا تمتلك حقول النفط والغاز، والتي جعلت عقولها ثروات طبيعية قادرة على صناعة قوتها الاقتصادية، هذا ما فعلته الصين واليابان وكوريا الجنوبية وتايلندا وماليزيا وسنغفورة والهند، بل إن هذه الدول لا تتوانى في استيراد مواردها الطبيعية الخام من الدول التي لا تستثمر في البحث العلمي لتحولها إلى مواد استهلاكية وتعيد تسويقها إلى نفس دول المصدر بأثمان باهظة، يا لها من مفارقة اقتصادية!
لقد أقدمت هذه الدول إلى شراء حتى نفايات دول أخرى لتحويلها إلى مواد استهلاكية قابلة للاستعمال مرات عديدة تجني من ورائها أموالا طائلة، وعلى سبيل المثال، إذا كان سعر الطن الواحد من الألومينيوم الخام يقدر بـ1700 دولار أمريكي، فإن سعر الطن الواحد من الألومينيوم المعدَّل يبلغ 3700 دولار أمريكي، وبإمكانه أن يتضاعف بكثير عندما يحوَّل إلى أسلاك كهربائية، وهنا يتبين الفارق بين الدول المصنعة والدول المصدرة للمواد الأولية.
لقد أقدمت هذه الدول إلى شراء حتى نفايات دول أخرى لتحويلها إلى مواد استهلاكية قابلة للاستعمال مرات عديدة تجني من ورائها أموالا طائلة، وعلى سبيل المثال، إذا كان سعر الطن الواحد من الألومينيوم الخام يقدر بـ1700 دولار أمريكي، فإن سعر الطن الواحد من الألومينيوم المعدَّل يبلغ 3700 دولار أمريكي، وبإمكانه أن يتضاعف بكثير عندما يحوَّل إلى أسلاك كهربائية، وهنا يتبين الفارق بين الدول المصنعة والدول المصدرة للمواد الأولية.
إذا كانت الجزائر تراهن اليوم على اقتصاد جديد خارج قطاع المحروقات، منتج للثروات، وكفيل باستحداث مصادر جديدة للأموال بعيدا عن النفط والغاز، بهدف تحقيق التنمية المستدامة، وفي ظل التفاف العالم برمته حول مشروع التحول نحو الطاقة النظيفة، لا بد أن تُسرَّع وتيرة الاستثمار في صحرائنا الشاسعة، واستغلال مساحاتها الخصبة لإنتاج الطاقة الشمسية، تحسبا للدخول في مرحلة جديدة قائمة على الطاقات المتجددة واكتساح السيارات الكهربائية، علما أن 1 بالمائة منها فقط بإمكانها تغطية احتياجات أوروبا من الطاقة الكهربائية النظيفة، حقيقة أن الاستثمار في الموارد الطبيعية مهم، لكن في الواقع فإن الاستثمار في العلم والمعرفة أهم بكثير، لأن العصر بات يفرض هذا التوجه وعلينا أن نسلم به، لكن الأمثل لو توفر كلاهما معا، وهنا يتعين على مخابر البحث العلمي في الجزائر أن تتأهب لهذا التحول الذي فرضه التغير المناخي والتطور التكنولوجي، عوض اللجوء إلى مناقصات لفائدة شركات دولية للاستثمار في هذا المشروع الطموح أو مشاريع في قطاعات أخرى.