وسطيّة العقل والعاطفة والذّوق
الخروج من الرّواق الضيّق وترْك التّكلّف ومخاطبة الناس بما هو في الوُسع والطوْق، وسطية أوصى بها الإسلام نفسُه وامتدحها العقلاء وركن إليها العقلُ والذّوق والوجدان، لقول الشّاعر:
عليك بأوساط الأمـور فإنهـــا * طريقٌ إلى نهج الصّراط قويمُ
ولا تكُ فيها مُفْرطا أو مفرّطا * فإنّ كلا حال الأمور ذميــمُ.
كيف يخوض عالم بحجم أبي حامد الغزالي، فيما خاض فيه وينشره في الناس، وهو الذي عقد فصولا كثيرة في مصنّفاته للحديث عن المغرورين بالمشاهدة والمكاشفة ونهايات المتجاوزين للأنوار، وحذّر من أسرار العالمين وكشف العارفين ومعراج السّالكين و”إلجام العوام عن علم الكلام”.. وحذّر من استكثار العلم مع قلّة العمل به. حيث انتهى في كتابه “المنقذ من الضّلال” إلى أنّ النّبوّة حقيقة اضطراريّة لكافّة الخلق، فما من مخلوق، مهما كانت درجة علمه ومعرفته وذوقه، إلاّ هو مفتقر إلى وحْي النّبوّة وهداية الرّسالة ووعظ المصطفين.
هناك معارف في كون الله الفسيح لا يتصوّر أن تُنال بالعقل، ولا سبيل إليها إلاّ النّبوّة والوحي، فإنّ إدراك هذه الأمور “التي لا يدركها العقل هو المراد بالنّبوّة.. فالمعجزات لا سبيل إليها ببضاعة العقل أصلاً”. ويسلّم بهذه الحقيقة الإيمانيّة الغيبيّة، بأنّ الذّوق هو أنّ يأخذ الإنسان بطريق النّبوّة، فيقول: “إذا فهمت معنى النّبوّة فأكثرت النّظر في القرآن والأخبار يحصل لك العلم الضّروريّ بكونه (ص) على أعلى درجات النّبوّة” (مجموعة الرّسائل: 600).
فكيف تُدرك عجائب الأمور؟ وهل “العلم اللّدنّي” كشْف لأستار الغيب؟ وهل العالِم بشرع الله -جلّ جلاله- يقبل على ما ليس له به علم فيدَّعى أنه يملك “ذوْقا” يلْطف ويشفّ فيبصر ما وراء الحُجب وينبئ بما لم يحدث بعد؟ أم إنّ ذلك من علم الاستشراف والفراسة وصفاء الإيمان والصّدق مع الحقّ، ولا صلة له بالكشف ولا بالمشاهدة والإشراق والسُّبُحات؟ وهو ما عناه الخضر -رضي الله عنه- عندما قال لموسى –عليه السّلام-: ((إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا)) (الكهف: 67 -68)؛ فالجهل بالشّيء يحمل على سوء تقدير مآلاته. فإذا كان الميزان شرْع الله تعالى كفى عن الخوض في ما ليس لحامله به علم. وهو ما جعل موسى –عليه السّلام- ينكر على الخضر ما خالف الشّريعة رغم جهله بأسرار العلم اللّدنّي. فجهلك بما يخالف شرْع الله لا يحملك على السّكوت عما ظاهره منكر. إذْ يستحيل في حقّ من عرف ربّه أن يقارف المعاصي أو يسكت عن مقترفيها إلاّ خطأ أو نسيانا أو تأوّلا أو إكراها، فإذا وقع منه السّهو وخار منه العزم ذكر الله فأبصر الحقّ، فانتفض في وجه الباطل مستنكرا عليه مجاوزة الحقّ: ((قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا)) (الكهف: 74)، فقتل طفلٍ فعلٌ منكر بقطع النّظر عن الأسباب والدّوافع والمقاصد والمآلات.