-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

.. وفي حياة الصّالحين عِبرة

سلطان بركاني
  • 598
  • 0
.. وفي حياة الصّالحين عِبرة

يحدث أن ننشغل كثيرا بدنيانا ونمتلئ بهمومها وآلامها ومشاريعها وآمالها، حتّى تقسو منّا القلوب وتغفل الأرواح، فيرسل الله إلينا برحمته مواقف وأحداثا تقرع قلوبنا وتهزّ أرواحنا لتذكّرنا أنّ هذه الدّنيا قصيرة وزائلة، وأنّنا عمّا قريب راحلون عنها وعن همومها ومشاكلها، إلى دار لا ينفع فيها مال ولا بنون ولا منصب ولا جاه، إنّما ينفع فيها العمل الصّالح. ((يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)).

من حين إلى آخر يرسل الله إلينا مواقف تهزّنا لنستعدّ للموعد الذي لا مناص منه، وللّقاء الذي لا مفرّ منه، اللقاء مع الله للحساب: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين)).. مواقف نعيشها في أنفسنا أو نسمع عنها ونراها في غيرنا؛ تحرّكنا لنتوب إلى الله وننظّم حياتنا ونرتّب أمورنا وننهي أشغالنا التي طالما أجّلناها، لنعيش الحياة الطيّبة، وننتظر الكرامة من الله في الحياة الباقية.

كثيرا ما يكذب علينا الشّيطان ويغرينا بأنّ النّاس من حولنا كلّهم قد أغوتهم الدّنيا وملأت قلوبهم، وأنّهم جميعا أصبحوا يتنافسون في حظوظها ويتهارشون عليها، فيرينا الله نماذج لعبادٍ له صالحين بيننا يعيشون زماننا هذا الذي نعيشه، لكنّهم يحيون دنياهم ضيوفا فيها، قلوبهم معلّقة بالآخرة يرجون ما عند الله، لا ينافسون أحدا منافسة غير شريفة ولا يحقدون على أحد ولا يعادون أحدا لأجل الدّنيا.. قلوبهم معلّقة بالصلاة والمساجد وحلقات تحفيظ القرآن، يتصدّقون وينفقون رغم قلّة ذات اليد. لا تسمع منهم إلا الكلام الطيّب ولا ترى منهم إلا الابتسامة الحانية.

كثير من الرّجال في هذا الزّمان ألهاهم التكاثر، وشُغلت قلوبهم وألسنتهم بالأموال والأسعار والمساكن والسيارات، يصبحون ويضحون ويمسون ولا حديث لهم إلا الدّنيا والكلام عن النّاس من حولهم.. وهكذا كثير من النّساء لا لهمّ لهنّ ولا حديث في لقاءاتهنّ في الأفراح والمناسبات وحتى في العزاءات إلا عن المظاهر.

لكن هل كلّ الرّجال وكلّ النّساء هم على هذا المنوال؟ لا والله، بيننا عبادٌ لله صالحون، لهم هموم أخرى أكبر وأعظم وأعلى من هموم الدّنيا؛ يعملون مثلنا ويبيعون ويشترون، لكنّهم يحرصون على الحلال، يجتهدون في أن تكون قلوبهم موصولة بالآخرة.. لا يقربون الحرام، ولا يحومون حول محارم الله، ولا يفرّطون في حقّ الله، ولا يظلمون عباد الله، وإن أخطأ أحدهم فإنّه يسارع إلى التوبة والبكاء بين يدي مولاه.. وبيننا نساء قلوبهنّ معلّقة بالدّار الآخرة، همّهنّ الأكبر أن يتقبّلهنّ الله ويرضى عنهنّ، ((مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ)).

روى لي أحد الأزواج الصالحين قصّة رحيل زوجته المرأة الربّانية يوم الخميس قبل الماضي، امرأة نحسبها من الصّالحات القانتات ولا نزكّيها على الله، بَكتها العيون، وكانت جنازتها مشهودة.. حدّثني عن شدّة محافظتها على الصّلاة، وعن صلاحها وصبرها وزهدها، وعن مواقف في حياتها تدمع له العين ويرقّ له القلب، وتذكّر بسير الصّالحات في زمن السّلف.. امرأة عاشت حياتها مع زوجها صابرة على الكفاف وقلّة ذات اليد، وكانت لا يتعلق قلبها بموجود ولا تحزن على مفقود.. أعانت زوجها على أن يعيش حياته لله، وربّت أبناء صالحين بررة.. لم تكن -رحمها الله- تنافس النّساء في حليّ الذّهب ولا في موضات اللباس، بل كان ما يهمّها ويشغل بالها أن تزيد حفظها من القرآن.. كانت حريصة على أن تحضر مع زوجها صلاة الجمعة، وأن تلتقي الأخوات الصالحات في حلقات التحفيظ الأسبوعية، وتأنس بالجلوس مع من همّهن القرآن والمساجد.. في السّنة الأخيرة من حياتها ابتليت بالسرطان، لكنّها ظلّت صابرة محتسبة، تحمد الله على السراء والضراء وتسأله العون على البلاء.. عزّ وصعب عليها أن تنقطع عن حلقات القرآن وعن صحبة الصّالحات، فكانت تتحامل على نفسها لتحظر إلى المسجد.. رأت في منامها في أواخر أيامها من الدّنيا النبيّ –صلّى الله عليه وآله وسلّم- يزورها ويسأل عنها، ورُئيت لها رؤى صالحة.. توفيت على خير بعد أن عانت كثيرا في الأيام الأخيرة من المرض، وتروي من غسّلتها أنّ وجهها علته ابتسامة مشرقة.. رحلت وتركت خلفها ذكرى طيّبة في قلوب كلّ من عرفها، وذكرى حسنة في مسجد حيّها، وتركت مصحفها ومكانها. ولعلّ طريقها إلى بيت الله ومجلسها فيه، وسجادتها في بيتها وطريقها الذي كانت تسلكه إلى المسجد، ومصعد عملها في السماء، لعلّ كلّ ذلك قد افتقدها وبكاها.

هذه النّماذج التي نراها في زماننا هذا زمان الفتن، لرجال مؤمنين صالحين ونساء مؤمنات صالحات، ستكون حجّة علينا بين يدي الله، حينما نتعلّل بأنّ زماننا كان صعبا والاستقامة فيه على طاعة الله كانت شاقّة.. والحقّ أنّ الاستقامة ليست هي التي أصبحت صعبة، إنّما قلوبنا هي التي أمست ضعيفة، بعد أن استولت عليها الدّنيا.. ووالله لو أخرجنا حبّ الدّنيا من قلوبنا لوجدنا قلوبنا تقودنا إلى الله والدّار الآخرة.. ليس كلّ النّاس من حولنا يتنافسون في الدّنيا ويحسدون عليها ويوالون ويعادون لأجلها، فبيننا رجال همّهم الآخرة، وبيننا نساء همّهنّ الآخرة، والواحد منّا إن أراد الخير لنفسه فليبحث عن الصّالحين وليحرص على صحبتهم والجلوس إليهم، وليحذر ممّن تعلّقت قلوبهم بالدّنيا واستولى الشّيطان على أنفسهم يقودها حيث أراد، وليخفف علاقته بالهاتف والتلفاز ويقلل من نزوله إلى الأسواق وجلوسه في المقاهي، وليتصالح مع بيت الله، ومع كتاب الله، ويجعل لزيارة المقابر وقتا كلّ أسبوع أو كلّ أسبوعين أو كلّ شهر.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!