-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ومع ذلك.. فهو عيد

التهامي مجوري
  • 545
  • 0
ومع ذلك.. فهو عيد

قبل يومين من عيد الفطر المبارك، حاولت استحضار بعض الفرح، تعبيرا عن السعادة والسرور، كما كنت أفرح مع أقراني في طفولتي وفي شبابي وفي كهولتي بعد ذلك، حيث كنا نلهو ونلعب ونفرح ونسرح ونمرح، بصيغ مختلفة اختلاف الطفولة عن الشباب والكهولة، فأستحضر –وانا على أبواب الشيخوخة- صورا من التحضير له بالألبسة الجديدة وشراء مستلزمات الحلوى والهدايا وبرمجة الزيارات للأقارب والأصدقاء والأخلاء…، فجالت خواطري بالكثير من تلك الصور الجميلة للعيد بما تحمل من معاني التواد والتعاطف والتراحم، بين ذوي الأرحام والجيران والأصدقاء والأحباب..، ولكن بكل سف لم أستطع الاسترسال في تلك المتعة الخيالية، الخالية من كل ما ينغصها من النقائص والفاسد من الخصائص… وعادت بي خواطري إلى حيث أنا، وإلى اليوم الذي أنا فيه، وهو يوم الأربعاء 27 رمضان 1439هـ الموافق ل12 يونيو 2018، وإلى المآسي التي تعيشها أمتي بجميع دوائر انتمائها الطبيعية، حيث لم تعد الأسرة أسرة، أبوة وبنوة وأخوة وخؤولة وعمومة، ولا المجتمع مجتمعا، ولا الدول دولا ولا الشعوب شعوبا، ولا الأمة أمة، ولا الإنسانية إنسانية…، بشر تحمها منظومة من الأهواء والنظم الفاسدة، مربوطة المصالح بالمسالخ والمسالح [السباق نحو التسلح].
فالأسرة التي كانت تتزاور في طول العام وعرضه، وتكثف زياراتها في المناسبات الخاصة والدينية منها على وجه الخصوص، في رمضان والعيدين والمولد..؛ لأنها من بقايا الإنسانية الراشدة، قد تخلت اليوم -هذه الأسرة- عن تلك الواجبات أو قل العادات الحسنة، لتحل محلها الرسائل النصية –أس أم أس- والمكلمات الهاتفية، والتواصل عبر العالم الافتراضي، والتواصل الاجتماعي، فايبر سكايب إيمو فايسبوك… وهلم جريا.
وبقدر ما فقدت الأسرة من القيم الاجتماعية الفاضلة، فقدت قبلها السلطة الشرعية السياسية بنفس القدر وأكثر، فتمكن منها الفساد السلطوي المالي، فجعلها تعيش مأساة التمزق بأبشع صوره، وها هي بغداد شاهدة على نفسها وعلى دمشق الغارقة في دمائها، وها هي اليمن المقسمة من جديد إلى صنعاء وعدن بقوة النار والحديد. والقاهرة المقهورة بضلال كبرائها وظلام بعض علمائها..، ثم الخليج الممزق بحسب أهواء عروشه وكروشه. أما العواصم التي تظن أنها عما يقع بجيرانها وإخوانها بمنآى، فهي معرضة ومهددة بما هو أنكى.
إن أطراف أمتي المترامية، وقد كانت امة واحدة إذا اشتكى منها عضو تداعى له سائرها بالسهر والحمى، هي الآن سُلَطٌ قائمة ولا تمثل شيئا بين شعوبها المغبونة، ولا تعبر عن شيء من أصول الأمة وفروعها، ولا تقيم وزنا لما بين يديها من قيم وطاقات وثروات؛ بل هي شارية لها لمن يدفع ويرفع، ومن ثم حقيقة قاعدة باركة بروك البعير، لا تقوى على شيء إلا على ابتياع الذي هو أدنى بالذي هو خير للغير.
يقول علَّامة الجزائر وعلَامَتُها الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في إحدى درره وروائعه الأدبية وهو يخاطب العيد واصفا واقع هذه الأمة وكأنه يتكلم عن عيدنا هذا الذي سنستقبله بعد يومين: “يا عيد كنا نلتقي فيك على عزّة تمكنتْ أسبابُها، وعلى حياة تجمعُ الشرفَ والتّرَفَ، وتأخذُ من كلّ طريفةٍ بطَرَفٍ، وعلى جدّ لا ينزلُ الهزلُ بساحته، واطمئنان لا يُلم النّصَب براحته، فأصبحنا نلتقي فيك على الآلآم والشُّجون… كلما أظلّني عيدٌ من أعيادنا أظلّتني معه سحابةٌ من الحزن لحال قومي، وما هم عليه من التخاذل والانحلال والبعد عن الصالحات والقرب من الموبقات، واحتدَمتْ جوانبي من التفكير فيما هم فيه من سَدَرٍ، لا يملكون منه الوِردَ ولا الصّدرَ، وذكرتُ كيف يعيشون على الخيال المُفضي إلى الخبال…، وكيف استخفّهم علماؤهم وزعماؤهم وكبراؤهم وملوكهم فأطاعوهم في معصية الله، وقادوهم إلى النار فانقادوا بشعرة، وكيف يَلقون أعيادهم التي هي موقظات. عزائمهم بهذه التقاليد الزائفة والعادات السخيفة التي تطمس معالمها وتشوّهُ جمالها..”.
أما الواقع الإنساني الذي يمثل المشترك البشري الذي فطر الله عليه الناس، والذي هو ليس في حاجة إلى عيد يعود ليذكرنا به، ومع ذلك فقد فقدته البشرية بفقدان الإنسان قيمه الحضارية الثابتة.. فزاد ذلك في مديونيتنا تجاه الواقع والحضارة وسعادة الإنسان الذي ما جاء التكليف إلا لأجله، فأفقدنا الشعور بالعيد وقيمه، وصدنا عن الشعور بالحاجة إليه… يقول المتنبي في رائعته يصف زمانه ذي الشبه بما نعيش أيضا”عيد بأية حال عدت يا عيد”:

لم يَترُكِ الدّهْرُ مِنْ قَلبي وَلا كبدي
شَيْئاً تُتَيّمُهُ عَينٌ وَلا جِيدُ
يا سَاقِيَيَّ أخَمْرٌ في كُؤوسكُما
أمْ في كُؤوسِكُمَا هَمٌّ وَتَسهيدُ؟
أصَخْرَةٌ أنَا، ما لي لا تُحَرّكُني
هَذِي المُدامُ وَلا هَذي الأغَارِيدُ
إذا أرَدْتُ كُمَيْتَ اللّوْنِ صَافِيَةً
وَجَدْتُهَا وَحَبيبُ النّفسِ مَفقُودُ
ماذا لَقيتُ منَ الدّنْيَا وَأعْجَبُهُ
أني بمَا أنَا شاكٍ مِنْهُ مَحْسُودُ
أمْسَيْتُ أرْوَحَ مُثْرٍ خَازِناً وَيَداً
أنَا الغَنيّ وَأمْوَالي المَوَاعِيدُ
إنّي نَزَلْتُ بكَذّابِينَ، ضَيْفُهُمُ
عَنِ القِرَى وَعَنِ الترْحالِ محْدُودُ
إلى أن يقول:
ما كُنتُ أحْسَبُني أحْيَا إلى زَمَنٍ
يُسِيءُ بي فيهِ عَبْدٌ وَهْوَ مَحْمُودُ
ولا تَوَهّمْتُ أنّ النّاسَ قَدْ فُقِدوا
وَأنّ مِثْلَ أبي البَيْضاءِ مَوْجودُ
وَأنّ ذا الأسْوَدَ المَثْقُوبَ مَشْفَرُهُ
تُطيعُهُ ذي العَضَاريطُ الرّعاديد
جَوْعانُ يأكُلُ مِنْ زادي وَيُمسِكني
لكَيْ يُقالَ عَظيمُ القَدرِ مَقْصُودُ
لا شك أن قدوم عيد الفطر المبارك يذكرنا بحقيقة ثابتة، وهي أن للصائم فرحتان، إحداهما الفرحة بإتمام عبادة الصوم، كما أن عيد الأضحى المبارك أيضا، يذكرنا بحقيقة أخرى وهي علاقة رسالة التوحيد بالبيت في أرض الله الحرام، وعلاقة صاحب الرسالة محمد صلى الله عليه وسلم بجد الأنبياء إبراهيم عليه السلام مشيد البيت والداعي إلى الحج إليه. وهذه فضيلة لا ينبغي أن تسقط من سلم قيمنا التي تصلنا بالله سبحانه، فتُحَوِّل أمر المؤمن إلى “خير كلي”، وليس خيرا جزئيا.. “عجبا لأمر المؤمن كله..” كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هموم امتنا التي أقعدتها قرونا، والدعوة إلى الخير التي هي رسالة الأمة برمتها، تفرضان علينا التركيز على الساحة الدكناء من أيام الأمة ولياليها، وعن المساحات التي اتسعت ساحاتها واتسع رقعها وارتفع منسوب سوائلها الفاسدة.
لا تلومونا إخواني القراء على هذا التشاؤم الذي فرض علينا نفسه، ولا تعدوه من السلبية القاعدة والمقعدة، وإنما هي نفثة مصدور كما يقال، تبحث عن آذان تصغي لمعانيها الغنية…، التي تبحث عن روح تواقة لتغيير هذا الواقع إلى واقع أفضل منه، ولو كان في مستوى الأقل سوء…
ورغم الداء الأعداء والألداء.. لا بد من رفع تهانينا إلى كل إخواننا المسلمين في العالم، فعيد مبارك وسعيد وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، ولا بد من التذكير أيضا بالقيم الإنسانية التي تقتضيها الرحمة رسالة الله الخاتمة، التي لا تسعد الإنسانية إلا بها، وهي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!