وهمُ السلام مع القتلة

في ظل الجرائم الصهيونية في غزّة، والتي فاقتْ كل التصّور، ومِنْ سلوك أمريكا والدول الأخرى الداعمة لإسرائيل سرا وعلنا، هناك حقيقة مؤلمة، على العرب إدراكها من أجل مستقبلهم ومستقبل أجيالهم.
الحقيقة انجلت، وإسرائيل فوق القانون الدولي، وفوق ميثاق الأمم المتحدة، مُحّصنة من العقاب الأممي أو الدولي، وهي مُخّولة بتفويض دولي بفعلِ ما تشاء، من أجل توسّعها وتفوّقها وهيمنتها، ولا حدود لما تُريد فعله، فالإمعان في الإذلال، والترويع والتفنّن في القتل يهون أمام تجريد الإنسان من آدميتهِ، وحتى من حرمان الميت من كرامة دفنهِ، هذا كله في لوائح إسرائيل، والعرب الذين يحيطون بها، دول وشعوب، ما هم إلا سلسلة أرقام تتعداهم تتخطاهم واحداً تلو الآخر، سواء بالقتل أو بالتطبيع ثُّمَ الغدر، وتعّولُ في مسعاها صهيونياً، على عامل الزمن، وعلى الدعم غير المحدود أمريكياً وغربياً.
اليوم، تفعلُ إسرائيل ما تشاء في غزّة، إبادة شاملة، وتجويع، ومنع وصول الغذاء، ومنع وصول الدواء، تأتي بكل ما هو ممنوع إنسانياً، وأخلاقياً، وقانونياً، ودينياً، وبدعم أمريكي غربي، وعجز أُممي وصمت دولي وتواطؤ عربي.
مَنْ ذا الذي سيمنع إسرائيل إنْ قررت، وسمحت لها الظروف، أنْ تزحفُ بجيشها بمرتزقتها نحو جغرافية جديدة ومساحات جديدة في الأردن، في لبنان وسوريّة ومصر؟
اليوم، توظّفُ إسرائيل دولاً كبرى كي تضغط على لبنان وتقنعه بالإغراء أو بالتهديد بتجريد المقاومة من سلاحها.
واليوم، تسعى إسرائيل لتجريد غزة من مقاومتها وسلاحها ولتهجير سكانها، وإفراغها من أهلها، وهناك من يدعمها ويقف بجانبها!
إن الحرب على الشعب الفلسطيني تظهر للعلن ما هي الصهيونية بين التوجهات الاقتلاعية والإحلالية، مظللة بممارسات أبارتايد من الاستثناء السياسي والتهميش الاجتماعي والاستغلال الاقتصادي والتمييز القانوني بأشكال مؤقتة ودائمة ضد قطاعات مختلفة من الشعب الفلسطيني، وتمارس هذه السياسات من خلال الاعتماد على قوة الجيش وميليشيات المستعمرين المسلحة والجسم الجديد قيد النشوء المسمى “الحرس الوطني” الذي أنشأه بن غفير، إذ تمارس الصهيونية سياسات العزل والإقصاء، حتى على اليهود المعادين للصهيونية، ثم توسع ليشمل كل من يرفض الهجرة إلى إسرائيل من اليهود، وفي العقد الأخير بات يشمل أيضًا حتى قوى ما يطلق عليه اسم «اليسار الصهيوني» لا لسبب سوى أن هذا «اليسار» يُتَّهم بأنه مستعد للحوار مع الفلسطينيين من أجل التوصل إلى “حل وسط إقليمي” كما يدعي.
اليوم، تفعلُ إسرائيل ما تشاء في غزّة، إبادة شاملة، وتجويع، ومنع وصول الغذاء، ومنع وصول الدواء، تأتي بكل ما هو ممنوع إنسانياً، وأخلاقياً، وقانونياً، ودينياً، وبدعم أمريكي غربي، وعجز أُممي وصمت دولي وتواطؤ عربي.
مَنْ ذا الذي سيمنع إسرائيل إنْ قررت، وسمحت لها الظروف، أنْ تزحفُ بجيشها بمرتزقتها نحو جغرافية جديدة ومساحات جديدة في الأردن، في لبنان وسوريّة ومصر؟
أن ما كان يطلق عليه اليسار والوسط الصهيونيان ليسوا أفضل من اليمين الصهيوني المتطرف إذ يمارسون من جرائم ضد الشعب الفلسطيني ضمن غلاف من العلاقات الدولية والادِّعاء الظاهري بالاستعداد للسلام، وهو الضم الرسمي للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، التي كان هذا اليسار الصهيوني قد ضمَّها فعلًا، يظهر هذا اليسار نفسه وكأنه يقف بجانب حقوق الشعب الفلسطيني، ولكن بعضه لا يفعل أكثر من استخدام هذه الحقوق شمّاعةً للمطالبة بحرياته داخل الكيان، بينما يستمرّ في التنكر لفلسطين والفلسطينيين بالممارسة وارتكاب وقبول الجرائم الممارَسة ضدهم، كما يستمر في اتهام الفلسطينيين بأنهم المسؤولون عن نمو التيار اليميني المتطرف بسبب «رفضهم مشاريع السلام التي طرحها عليهم اليسار الصهيوني في الماضي».
عدا هؤلاء، هنالك قلة من اليهود المعادين للصهيونية الذين تتهمهم قوى الصهيونية كلها بيمينها ويسارها بالخيانة وعدم الولاء بسبب تضامنهم مع الشعب الفلسطيني ضد الاستعمار، وقد تعرّض هؤلاء للاعتداءات من القوى الصهيونية أثناء تضامنهم مع الفلسطينيين، ويبدو أنهم سيتعرّضون لاعتداءات أخرى أشدّ في المستقبل.
إن عملية السلام من المنظور الغربي الإمبريالي، رحلت إلى غير رجعة، والسلام الذي يتحقق الآن، هو سلامُ القوة والصمود الفلسطيني في مواجهة آلة القتل العسكرية الإسرائيلية، الأمريكية الصُنع. والسلام الذي كانت تروّج له اتفاقيات أوسلو وغيرها من الاتفاقيات، ارتكز على تقديم التنازلات واحدًا تلو الآخر، حتى مبادرة السلام العربية لسنة 2002، قدَّمت مبدأ الاعتراف بإسرائيل في مقابل حصول الفلسطينيين على بعض حقوقهم، حتى ولو كانت على حدود 1967، لكنها تظل منقوصة، وغير عادلة.
وما يحدث من جرائم حرب وإبادة جماعية في غزة يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن كيان الاحتلال لا يستهدف سوى ممارسة التطهير العرقي، في استمرار مُتعمَّد للجرائم البشعة التي ينفذها على مرأى ومسمع من العالم أجمع، وتحت غطاء دولي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، حتى إن مجلس الأمن الدولي المعني بحفظ الأمن والسلام في العالم -أو هكذا كُنَّا نظن- يفشل مرة تلو المرة في تمرير أي مشروع قرار يطالب بوقف الحرب في غزة، في فضيحة عالمية تُعرّي تلك الأنظمة التي تدّعي الديمقراطية وتزعم أنها تدافع عن حقوق الإنسان، لكن يبدو أن مفهوم الإنسان لديهم يختلف عن المفهوم الصحيح؛ إذ يدافعون عن القاتل المجرم بدعوى أنه “يمارس الدفاع عن النفس”، كما يقمعون أي تعاطف مع ضحايا العدوان الهمجي على غزة، ويسنُّون التشريعات لمُعاقبة كل من يُعلن تأييده للحق الفلسطيني.
تلك العنصرية الغربية- الصهيونية في أساسها- تتسبّب في سقوط المزيد من الشهداء والجرحى بنيران الاحتلال، الذي لا يتوانى عن قصف أي هدف مهما كان، مستشفى أو مدرسة أو مسجد أو كنسية أو حتى طريقا عامّا يسير عليه الأبرياء رافعين الرايات البيضاء.
لكن في المقابل، علينا أن نتحلى بيقينٍ تامٍ بأنَّ الأيام سجال: يوم لك و يوم عليك، لكن ضريبة الدفاع عن الأرض والمقدسات، وثمن نيل الحرية والاستقلال باهظة الثمن، فكُل حروب التحرير التي خاضتها الشعوب لم تكن مجانية أو من دون ضريبة الدم؛ بل كانت التضحيات هي الوقود الذي يضيء نور الحق، وعنصر النجاح في كل المعارك العادلة.
لقد بات واضحا أن غزة أصبحت بالنسبة لجيش الاحتلال مستنقعًا من الوحل، لن يستطيع الخروج منه بسهولة.
مرة أخرى، لم يعد السلام الذي كان يُروَّج له على مدى العقود الماضية، صالحًا في ظل هذا الإجرام والتلذذ بالقتل والتدمير الذي يحصل. إن وحشية الانتقام وغطرسة القوة وإنكار الآخر والعمل على سحقه هي السائدة في وسط الكيان الصهيوني المجرم، وقد باتت المراهنة على السلام هي كمن يراهن على السراب، إذ لا زال المنبطحون والانهزاميون يؤمنون بالتنازل أكثر فأكثر إلى درجة تقديم كل شيء للاحتلال وتجريد المقاومة من سلاحها مجانا، وبالقبول بالذل والمهانة، لكن ذلك -ومن التجارب السابقة- لم ولن يرضي الاحتلال الذي يريد كل شيء مقابل لا شيء، فكيف لنا أن نبقى نراهن على وهم السلام مع القتلة؟