وهم الشعوذة يجر بريئة إلى محاكمة شعبية ظالمة

شهدت مدينة العلمة حادثة صادمة اختلطت فيها الخرافة بالواقع، والجهل بالحماس، لتتحوّل سيدة مغتربة، عادت إلى وطنها بطمأنينة، إلى “متهمة” بممارسة السحر، لمجرّد أنها كانت تحمل مصحفا مرفقا بترجمات بالفرنسية، فرماها الناس ظلما بممارسة الشعوذة، وقذفوها بغصن اقتطع من شجرة الحملة العشواء المتعلقة بتطهير المقابر، في زمن تتداخل فيه الحقيقة مع الخيال، وتُصاغ فيه الأحكام داخل دوائر “الفايس بوك” بدل قاعات المحاكم.
الحادثة أثارت غضبًا واسعًا وسط الرأي العام الوطني، بعد تعرّض سيدة مغتربة محجبة لحملة تشهير واتهام خطير بممارسة الشعوذة، لمجرد أنها كانت تحمل مصحفًا وأوراقًا باللغة الفرنسية تساعدها على فهم معاني القرآن الكريم.
المعنية، وهي امرأة محترمة مقيمة بمدينة ليون الفرنسية، فضلت العودة إلى أرض الوطن للحفاظ على تربية أبنائها وفق التعاليم الإسلامية. فقد قررت الفرار من فرنسا عسى أن تجد في وطنها الأم محضنا لممارسة قناعاتها الدينية دون أن يزعجها أحد، خاصة أنها تعرضت هناك في ديار الغربة لمضايقات وخافت أن يتأثر أولادها بالعادات الأوروبية والانحرافات الأخلاقية. لكن ما حدث لها منذ يومين كان بمثابة صدمة زعزعت إيمانها بهذه الفكرة التي عادت من أجلها. المرأة المظلومة توجهت في صباح يوم الحادثة إلى المسبح العمومي بالعلمة برفقة ابنتها، وهناك، انزوت وفضلت استغلال لحظات الانتظار في قراءة القرآن، فكانت تتلو آيات من المصحف، وتراجع أوراقًا فيها ترجمة لمعان قرآنية، وهو سلوك طبيعي لأي شخص غير متمكن من اللغة العربية، حيث كانت تكتب بعض الكلمات القرآنية باللغة الفرنسية حتى يسهل عليها مراجعتها.
غير أن وجود تلك الأوراق، مقترنًا بجلبابها، كان كافيًا لإثارة الهلع في نفوس بعض الحاضرين الذين سارعوا إلى محاصرتها، وتصويرها، ونزع نقابها أمام الملأ، بزعم أنها “تحمل طلاسم سحرية”. لم يُمهلها أحد فرصة التوضيح، وانهالت عليها الاتهامات جزافًا، قبل أن تتدخل قوات الأمن وتُخلي سبيلها، ليتبيّن لاحقًا أنها بريئة تمامًا، وأن ما حدث هو مجرد وهم جماعي ناتج عن حالة فزع وهوس بالسحر، غذّته حملة هستيرية اجتاحت البلاد خلال الأشهر الأخيرة، تحت شعار “محاربة السحر والشعوذة”.
ما حدث في العلمة لم يكن مجرد سُوء تفاهم، بل تجسيدًا مرعبًا لتحوّل الخوف من السحر إلى هوس جماعي لا يرحم، يتغذى على الجهل، ويقود في كثير من الأحيان إلى القذف والتشهير وحتى الاعتداء، دون دليل أو مساءلة.
من جهتنا، حاولنا الاتصال بالمرأة الضحية، لكنها اعتذرت عن التواصل معنا، لأنها مازالت تحت الصدمة، ولم تعد تقدر على الإدلاء بأي تصريح حول الحادثة، وهي أصلا من الصنف الذي يفضّل الصمت المقرون بالتحمل، وكذلك فعلت لما حاصرها الناس، واتهموها بالشعوذة حيث فضلت السكوت من باب الحياء، ولم ترد حتى على من نزع منها نقابها، فقد غلبتهم بصمتها وحيائها الذي اعتقده البعض سكوت الرضا. هكذا روى لنا سليم من العلمة الذي كان شاهدا على حادثة الإفك والعصبة التي اشتركت في الذنب، ويقول محدثنا، إنه شاهد الناس قد أحاطوا بها، وبعضهم في حالة هيجان، فكانوا يقذفونها بكلمات نابية، بعدما اقترب منها أحد الحضور وانتزع منها المصحف والأوراق، وراح يصور ويردّد: “انظروا إلى الطلاسم” وهو يقصد الكلمات القرآنية المترجمة إلى الفرنسية، والمتحدث يبدو أنه لا يتقن قراءة الفرنسية، لذلك اعتبرها طلاسم من دون تروٍّ.
استنكار شعبي لمحاكمة شعبية
ردود الفعل جاءت غاضبة ومستنكرة، حيث اعتبر كثيرون ما حدث اعتداءً صريحًا على كرامة المرأة الجزائرية وعلى حرمة المصحف الشريف. وطالب نشطاء بحذف الفيديو الذي انتشر بشكل واسع على منصات التواصل، والاعتذار العلني من السيدة، فيما عرض أحد المحسنين إهداءها عمرة تطييبًا لخاطرها، حيث يقول بأنه سيتحمل تكاليف العمرة بكاملها، لأنه منذ أن علم بالحادثة لم يتمالك نفسه، ولم يقدر على حبس دموعه التي تسبقه كلما تذكر رعشتها وهي محاصرة بين المتكالبين عليها.
هذه امرأة لا حول لها ولا قوة، اتُهمت ظلماً بالسحر لأنها كانت ترتدي النقاب وتحمل قصاصات مكتوبة بلغة أجنبية، فحاصروها بالتجمع والصراخ والتصوير والتهديد، وكلها علامات تُنذر بانزلاق اجتماعي خطير، حيث يضع الناس أنفسهم مكان القضاء، في ظل غياب أدنى درجات التحري أو التحقق.
وما زاد من حساسية هذه الحادثة، أنها مسّت القرآن الكريم، واتهمت مسلمة بأنها ساحرة، فقط لأنها لا تتقن العربية، في مشهد يجسّد مدى خطورة الجهل حين يقترن بالهوس.
كثيرون ممن تحدثنا إليهم بالعلمة شبّهوا ما وقع بمجزرة معنوية كانت على وشك أن تتحوّل إلى كارثة جسدية، لولا تدخل الأمن في الوقت المناسب، وأكدوا أن ما حدث ليس مجرد خطأ فردي، بل صورة عن انفلات جماعي خطير.
الهستيريا ولدت بين القبور.. ليتهم تركوا المقابر للأموات
حملات تنظيف المقابر من الطلاسم وأدوات السحر كانت في بدايتها مبادرة مجتمعية مشروعة ومرحّبا بها، لكنها تحولت مع الوقت إلى موجة من الرعب والهوس الجماعي، غذّتها وسائل التواصل الاجتماعي بمئات الصور المضخّمة والمبالغ فيها وحتى المفبركة، والتي أعطت انطباعًا بأن كل شبر في المقابر مليء بالسحر.
في ظل هذا المناخ، صار أي كيس، ورقة، أو حتى كتابة غير مفهومة يُنظر إليها بعين الشك. وهذا ما وقع فعلاً مع السيدة المغتربة، حيث صبّ الناس عليها جام غضبهم دون تحقق، فقط لأنها كانت مختلفة قليلاً في مظهرها ولسانها.
ردود الفعل لم تخلُ من أصوات العقل التي استنكرت المشهد برمّته، وحذّرت من أن تتحول هذه الحملات إلى هستيريا جماعية تضر الأبرياء. ودعا بعض النشطاء إلى تقنين هذه المبادرات وربطها بالجهات الرسمية، بدل أن تُترك لمزاج العامة، وسلطات وسائل التواصل.
ويرى مختصون في علم الاجتماع بأن الظاهرة تعكس أزمة ثقة متجذّرة في المجتمع، يُضاف إليها غياب الوعي القانوني والتربية الدينية السليمة، ما يجعل بعض المواطنين يتصرفون بعنف وعشوائية.
الانتشار السريع لمقاطع الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، والتعليقات المحرّضة التي رافقتها، أعادت الجدل حول ما يُعرف بـ”المحاكم الشعبية”، حيث يتحول الشارع إلى ساحة إصدار أحكام دون محاكمة أو دفاع.
المحامي سليم حركات يحذر في تصريح لـ”الشروق اليومي” من هذه الظاهرة، التي تنسف مبدأ “قرينة البراءة”، وتحوّل المواطن البسيط إلى أداة للقذف والتشهير، خاصة في ظل التضليل الرقمي وانتشار المواد المفبركة. وما زاد الطين بلة، يقول محدثنا، هو أن البعض يبرر مثل هذه السلوكيات بدعوى “الغيرة الدينية” أو “الحرص الاجتماعي”، في تجاهل تام لقيم القانون التي تعتبر توجيه الاتهام اختصاصًا حصريًا لوكيل الجمهورية، حتى في حال التلبس. الخطورة لا تكمن فقط في الاعتداء على الأفراد، بل في محاولة ضرب مؤسسات الدولة التي يُفترض أن يحتكم إليها في النزاعات، بعيدا عن المنصات الفايسبوكية وتجمعات الشوارع.
حادثة العلمة ليست إلا إنذارًا جديدًا على انزلاقات البعض نحو ردود فعل هستيرية وخطيرة. فالخوف من السحر الوهمي لا يبرر تعرية الناس وتشويه سمعتهم أمام الجميع. فإذا كان التظاهر بالسحر أو الدجل إثما، فإن الاتهام الباطل والتشهير العلني جريمة أخلاقية وقانونية.