ويتكوف ينصّب فخّا لـ”حماس”

أحسنت حركة “حماس” صنعا حينما رفضت ضمنيا، وبشكل ديبلوماسي مهذَّب، المبادرة الأخيرة التي تقدّم بها المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف، لأنّها منحازة بشكل صارخ للاحتلال، ولا تستجيب لطلباتها الأساسية التي ترفعها منذ قرابة 20 شهرا، وفي مقدّمتها الوقف النهائي للحرب، وانسحاب قوات الاحتلال من غزة، وتدفّق المساعدات على غزة بلا قيود.
وكان ويتكوف قد قدّم من قبل مبادرة معقولة قبلتها “حماس”، وتنصّ على هدنة من 60 يوما يتوقف خلالها القتال بضمانات أمريكية، وتنسحب قوات الاحتلال من مواقعها بغزة، وتجري عملية محدودة لتبادل الأسرى في اليومين الأول والأخير للهدنة، وتتفاوض “حماس” خلالها مع الاحتلال على وقف دائم للحرب، وفي حال عدم التوصّل إلى اتفاق بهذا الشأن، تتواصل المفاوضات بعد انقضاء هدنة الستين يوما ولا تستأنف الأعمال القتالية.
كان الجميع ينتظر الإعلان عن هذا الاتفاق الذي يضع حدا لمعاناة الفلسطينيين الجوعى المحاصرين في غزة، لكنّ ويتكوف انقلب فجأة على عقبيه، وقدّم مبادرة جديدة انحاز فيها كلّيا لمطالب حكومة نتنياهو المتطرّفة، وفي مقدّمتها تبادل الأسرى في اليومين الأول والسابع للهدنة، ولا يمنح أيّ ضمانات أمريكية لمفاوضات تقود إلى إنهاء الحرب، أو انسحاب قوات الاحتلال من غزة، بل يتحدّث فقط عن “إعادة انتشارها شمال غزة وجنوبها وفي محور نتساريم”، ما يفتح الباب واسعا أمام الاحتلال للبقاء في القطاع ومواصلة الحرب، ليس بعد انقضاء هدنة الستين يوما، بل حتى بعد تسلّم الدفعة الثانية المتفق عليها من الأسرى في اليوم السابع للهدنة. أليس هذا خديعة وفخّا لـ”حماس” هندسه بإتقان المبعوث الأمريكي المتصهيّن ستيف ويتكوف لخدمة الاحتلال؟
وهنا لاحظ الجميع أنّ رئيس وزراء الكيان، الذي طالما اشتهر بتسويفه وتماطله وتهرّبه من قبول أيّ مبادرة اتفاق تعرض عليه، قد سارع هذه المرة، إلى إعلان قبول مبادرة ويتكوف، ليضرب عدّة عصافير بحجر واحد؛ فهو يتيح له الظهور أمام العالم بمظهر الحريص على إنهاء الحرب بالطرق الديبلوماسية، وأنّ “حماس” هي التي ترفض إنهاءها، ومن ثمّ، يحمّلها مسؤولية استمرارها، ويخفّف عنه الضغوط الداخلية والدولية التي تصاعدت ضدّه في الآونة الأخيرة لعقد صفقة تبادل وإنهاء الحرب.
انطلاقا من هذا التراجع والتعديلات التي يصبّ معظمها في صالح الكيان، ولا يلبّي من مطالب المقاومة إلا النّزر اليسير، ردّت “حماس” على مبادرة ويتكوف بشكل ديبلوماسي للغاية وقالت إنّها “تقبلها بما يضمن الوقف النهائي للحرب، والانسحاب الشامل لقوات الاحتلال من غزة، وتدفّق المساعدات على السكان”. وبهذا، تؤكّد “حماس” ثباتها على موقفها الرّاسخ الذي ما فتئت تعبّر عنه بوضوح منذ بداية الحرب إلى اليوم، ومدى صلابتها في مواجهة ضغوط الكيان والوسطاء.
باختصار، فإن مبادرة ويتكوف هي مؤامرة خسيسة بين الأمريكيين والصهاينة لمواصلة الحرب الجهنّمية التي تستهدف، في نهاية المطاف، تحقيق مخطط ترامب لتهجير سكان غزة والاستيلاء عليها، وتحميل “حماس” مسؤولية مواصلة الحرب، وقد بدت ملامح تصعيد الوحشية واضحة من خلال المجزرة البشعة التي ارتكبها الاحتلال في الفاتح جوان الجاري بحقّ عشرات الفلسطينيين المستضعفين الذين توجّهوا إلى مركز لتوزيع المساعدات برفح لاستلام حصص غذائية من الشركة الأمنية الأمريكية. ونرتقب حدوث مجازر وحشية أخرى في الأيام القادمة في سياق تصعيد الضغط على “حماس” لإجبارها على الرّضوخ للاحتلال والقبول بهدنة قصيرة من 60 يوما يستلم خلالها 10 أسرى أحياء و18 جثة، ثم يواصل الحرب، تماما كما فعل في مارس الماضي بعد نهاية المرحلة الأولى لاتفاق وقف إطلاق النار.
وهنا لم يعد أمام المقاومة وفلسطينيي غزة حل آخر سوى مواصلة صمودهم الأسطوري إلى غاية تحقيق صفقة مشرّفة تنهي الحرب وتحقّق مطالبهم الأساسية، وما عجز الاحتلال عن إنجازه بالضغط العسكري طيلة 20 شهرا لن يحقّقه الآن بالمزيد من الضغط، وسيخرج العدوّ في نهاية حرب الاستنزاف خاسرا ذليلا.