-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

آفاق الإصلاح الدستوري والانتقال الديمقراطي

ناصر حمدادوش
  • 573
  • 0
آفاق الإصلاح الدستوري والانتقال الديمقراطي
ح.م

تعتبر الدساتير القوانينَ الأساسية للدول والمرجعية العليا لها، وهي التي تحدّد شكل الدولة، وطبيعة النظام، وحدود العلاقة بين السلطات، ومساحة الحقوق والحريات، والإطار التعاقدي بين الحاكم والمحكوم، وكيفية ممارسة السّلطة داخل الدولة. ومن أهمّ المعايير الدالّة على قوّة هذه الدساتير هي مدى صمودها أمام رغبات التعديل وثباتها على الاستمرارية والامتداد في الزمن، فكلما تجرّأ عليها السياسيون فقدت مصداقيتها وقيمتها، على اعتبار أنها المرجعية العليا للدولة في الاحتكام إليها، لأنها تتصف بالسّمو القانوني والعلو المعنوي في التشريع.

وتحرص الدول الديمقراطية التي تحترم نفسها على تثبيت القواعد والضوابط الدستورية التي تقلّل من حالات العبث به على مقاس الزّعماء والرّؤساء، وتفصِّل في الحالة المزمنة لضعف مناعة الدساتير أمام حالات الاستبداد. وقد دفعت الثوراتُ الشّعبية إلى الضرورة السياسية لتغيير الدساتير، وفرضِها كحاجةٍ واقعية وكآليةٍ أساسية في الإصلاح والتغيير، على اعتبار أنّ الدساتير العربية هي إحدى أدوات الأنظمة التسلطية، وذلك بالذهاب إلى إعادة صياغة مفهومٍ جديدٍ للسلطة، وطريقة الوصول إلى الحكم، وضمان المزيد من الحقوق، والفصل بين السّلطات: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتوزيع الصلاحيات والاختصاصات بينها، واستقلالية القضاء، وسيادة القانون على الجميع، والتداول السّلمي على السّلطة، وتوفير المزيد من معايير الحكم الرّاشد، مثل الديمقراطية والعدالة والشفافية والرّقابة والمحاسبة، ومعالجة إشكالية تخلّف الدولة عن المجتمع، والتي تتسبّب في عطب الشرعية السياسية للسّلطة، وبالتالي ضعف مشروعية أدائها في ممارسة الحكم. إلاّ في العالم العربي فإنّ الدساتير تتجه نحو اختزالها من منطق الدولة إلى منطق الأشخاص، بتعزيز صلاحيات الفرد على حساب صلاحيات المؤسّسة، وتكثيف فكرة المركزية للهيمنة على السّلطة والدولة معًا، على الطريقة الفرعونية التي يتماهى فيها الإنسان مع السّلطة ومع الألوهية، ابتداءً من احتكار الصّواب في الرّأي والموقف في قوله تعالى: “قال فرعون ما أريكم إلاّ ما أرى، وما أهديكم إلاّ سبيل الرّشاد”. (غافر: 29)، إلى قوله تعالى على لسانه أيضًا: “.. أنا ربُّكم الأعلى”. (النازعات: 24)، وقوله: “وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إلهٍ غيري..” (القصص: 38).

ومن أهمّ الاستحقاقات السياسية لمرحلة ما بعد الثورات الشّعبية وعمليات الانتقال الديمقراطي هي الانحياز إلى فكرة الإصلاح الوقائي بدلاً من التغيير العنيف كمفتاحٍ للحل وأساسٍ للتغيير، ومنها الإصلاحات الدستورية بفضّ الغبار عن مساوئ الدساتير الشمولية السابقة، والتطلّع إلى أشواقٍ تشريعية إنجازية من الناحية الفكرية والقانونية للمطالب المشروعة للشعوب وآمالها في التغيير والإصلاح، بتلك الرّحلة الحضارية لإرادة الأمة في الصياغة النّصية للدستور الجديد بالارتقاء من الواقع إلى المثال، إذ أنّ المدخل الدستوري هو من أهمّ المداخل في قياس مدى التحوّل الديمقراطي الحقيقي.

وأمام حالات الرّدة عن الحرّية والديمقراطية في العالم العربي يبقى مطلب الإصلاح الدستوري المؤدّي إلى توزيع السّلطات واستقلالها يتجدّد كموضوع محوري ومطلبٍ جوهريٍّ في مسيرة البناء الديمقراطي، خاصّة أمام انكشاف هشاشة الإصلاحات وهامشية التعديلات الدستورية السابقة، وانكسارها على صخرة الممارسة والتطبيق. ومن معايير النّجاح في الدساتير الديمقراطية وفق نظريات وأدبيات القانون الدستوري هي طريقة إعداد وإخراج الدستور، والمحتوى والمضمون المعبِّر عن مدى ديمقراطيته. ولا تكاد تختلف الأنظمة العربية ذات الموروث التقليدي في الحكم التسلّطي على احتكار الطريقة في ذلك، بتشكيل لجنةٍ من الخبراء الموالين للسّلطة، واختزالها في البُعد التقني والقانوني دون باقي الأبعاد الفكرية والسياسية الأخرى، ثم الإدمان على المشهدية بالمشاورات الشكلية، لتمرير ذلك المضمون المُعدّ سلفًا، فلا تشفع اللّمسات التجديدية فيه بتحقيق آمال الشعوب في التغيير الحقيقي، إذ أنّ هيمنة منطق الأمر الواقع واختلال موازين القوة لصالح النظام السياسي القائم سيجعل تلك الدساتير أقوالاً بلا أفعال وأشباحًا بلا أرواح، إذ ستواجِه تلك الإصلاحاتِ الدستورية إشكالاتٌ واقعية، منها: الفجوة الكبيرة بين النّص الدستوري النّظري وآليات تنزيله على الواقع السياسي، إذ سيتم تفريغه من محتواه عبر القوانين العضوية والقوانين العادية والمراسيم التطبيقية، وخاصة أمام برلماناتٍ عربية فاقدة للاستقلالية وللسيادة في التشريع أمام تغوّل السّلطة التنفيذية، والتي تفتقر إلى الإرادة السياسية العليا في التغيير، وهو ما حدث عندنا في الجزائر في الإصلاحات السياسية سنة 2012م وفي التعديل الدستوري لسنة 2016م. ولعلّ كثرة التعديلات والعبث بها دليلٌ على غياب الرؤية السياسية وهشاشة الإصلاحات المزعومة، وأنّ من أهمّ ما يجب أن يتّجه إليه الإصلاحُ الدستوري الجديد، حتى لا يستنسخ نفس المسخ السابق هو:

1- الحسم الواضح في هوية وطبيعة النظام السياسي: هل هو رئاسي أم شبه رئاسي أم برلماني؟ وقد يكون الأفضل للجزائر الآن هو النظام البرلماني، بعد هذه التجربة الطويلة والحصيلة السلبية للنظام الرئاسي، بحيث يتم توزيع الصلاحيات والاختصاصات بين الرئاسة والحكومة والبرلمان، فيختصّ الرئيس بالصلاحيات والمهام السيادية وهي الدفاع الوطني والأمن القومي والسياسية الخارجية والعلاقات الديبلوماسية، وتختص الحكومة المنبثقة عن الكتل البرلمانية الفائزة في الانتخابات التشريعية بتحقيق التنمية، مع تعزيز صلاحيات البرلمان في المحاسبة والرقابة على عمل الحكومة.

2- اعتماد مبدأ الانتخاب، وليس التعيين، في السلطة المستقلة لتنظيم الانتخابات والمجلس الدستوري والمحكمة العليا للدولة، بما يضمن الاستقلالية الفعلية والسيادة الكاملة في أداء مهامها ولا تكون خاضعة إلاّ لسلطة القانون والضمير.

3- التنصيص بكلّ وضوح على المهام الدستورية للمؤسّسة العسكرية، بما لا يسمح لها بالتدخّل في الحياة السياسية، وبما يضمن حياديتها والتفرّغ التام إلى احترافيتها، وبما يجسّد خضوعها إلى السّلطة السياسية المدنية الشّرعية المنتخَبة.

4- التنصيص على الحياد التام للجيش وللأجهزة الأمنية وللمؤسسات القضائية والدينية والتعليمية والإدارية والإعلامية، وخاصة في المواعيد الانتخابية والمنافسات السياسية، وتجريم الفساد والتزوير الانتخابي وتغليظ العقوبة عليهما.

5- التنصيص على السلطة الوطنية المستقلة لتنظيم الانتخابات، وعلى طريقة تشكيلها، وعلى مهامها وصلاحياتها، بما يضمن استقلاليتها عن الإدارة، وحيادها أمام الأحزاب السياسية والمترشحين، وبما يمكّنها من ضمان نزاهة الانتخابات والمنافسة الشريفة فيها.

6- تجريم خطاب الكراهية والعنصرية والجهوية والمساس بالوحدة الوطنية وبالانسجام الاجتماعي والتجنّي على الثوابت وأبعاد الهوية الوطنية والطعن في الرموز الدينية والتاريخية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!