-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أحمد حسن الزيات

أحمد حسن الزيات
ح.م

في الثاني عشر من شهر ماي الماضي مرت خمسون سنة على وفاة أحد كبار الأدباء في العالم العربي بل أراه وقليلا من أمثاله – “في فن الكتابة، وممن بعث النشر العربي الأصيل والجميل على أيديهم… فهو ثالث ثلاثة أو رابع أربعة في الوطن العربي في التاريخ المعاصر.
إنه الكاتب الكبير أحمد حسن الزيات، الذي كان له مناصرون ومقتدون في الجزائر، التي كان أدباؤها، وأكثرهم من جميعة العلماء، يخوضون “حربا” ضروسا لإنقاذ اللغة العربية من “العجمة” و”الرطانة”…
وقد حبب الزيات إلى أدباء الجزائر ومعلميها أنه كان أشبه بأميرهم، وقدوتهم في الكتابة، الإمام محمد البشير الإبراهيمي.. سواء من حيث المبنى أم من حيث المعنى، إذ بالرغم من إتقان الأستاذ أحمد حسن الزيات اللغة الفرنسية، ودراسته القانون، فإنه لم ينسلخ– كما انسلخ كثير غيره– عن القرآن الكريم أسلوبا وتوجها…
في العام الدراسي 1963 – 1964 تشرفنا، نحن طلبة السنة الثانية متوسط– في ثانوية عبان رمضان في حي المحمدية بالحراش بقدوم أستاذ فاضل سيتولي تدريسنا اللغة العربية والأدب العربي، إنه الأستاذ عبد الحفيظ بدري رحمه الله.
قبل مجيء هذا الأستاذ كنا أعلنا إضرابا عن الدراسة لعدم وجود أساتذة في بعض المواد ومنها اللغة العربية والأدب العربي…
في الحقيقة، كان هناك أستاذان لهذه المادة، ولكنهما “لم يملآ عيوننا”، فقد كانا يشوهان بنطقيهما أجمل لغة، حتى صيراها “أقبح لغة”، فقد كانا نتيجة “المدرسة الاستشراقية الفرنسية”، والأستاذان هما “ب. ع” و”ق”، رحمهما الله.
عندما التحق الأستاذ بدري بالثانوية حذرته الإدارة من طلبة السنة الثانية متوسط– القسم المعرب– لأننا في رأيها “مشاغبون” ويعلم الله أننا ما كنا “مشاغبين” بل كنا متلهفين إلى الدراسة تلهف الوليد إلى أمه… وأحرص على مستقبلنا من الإدارة، التي كان على رأسها فرنسي وكان بعض معاونيه من الجزائريين أكثر فرنسية منه.
يبدو أن الأستاذ عبد الحفيظ بدري، قد صدق كلام الإدارة، فدخل علينا القسم بوجه عبوس قمطرير، وأراد أن يثبت أن “العيب فينا”، فطلب أن يخرج كل واحد منا ورقة، وأملى علينا ما أمرنا بإعرابه…
كانت النتيجة “كارثة”، فلم ينل أمثلنا– وهو الأخ محمد وطاس، شفاه الله – إلا خمسة من عشرين فأسمعنا الأستاذ بدري قوارع الكلام، وأفهمنا أنه سيكون معنا كالحجاج بن يوسف مع أهل العراق خاصة أن الأستاذ بدري كان ذا بسطة في الجسم… وكان الأستاذ يومئذ أستاذا، والتلاميذ تلاميذ… والوزير وزيرا، و… بدأ الأستاذ بدري– رغم صرامته– يتسلل – كحباب الماء إلى قلوبنا، ويستولي على عقولنا، بفصاحة لسانه التي لم أعرف لها نظيرا، وطلاقة وجهه، وسماحة نفسه، ووطنية روحه، وصحة إسلامه ووسطيته– ولم أسمع أحدا ممن تتلمذوا للأستاذ بدري يذكره بسوء رغم صرامته التي وصلت أحيانا إلى “الضرب”.. وأشهد أن العام الدراسي الذي قضيناه معه كعشرة مع غيره…
سألنا في أول عهده بنا إن كانت هناك مكتبة باللغة العربية في الثانوية، فأجبنا بالنفي، فاختار بضعة تلاميذ وتوجه بنا إلى المدير، وكان فرنسيا. وطلب منه شراء كتب باللغة العربية في جميع ميادين المعرفة.. لأنه– كما قال– لا يعقل أن تتغذى بطون التلاميذ، ولا تتغذى عقولهم، ولا غذاء للعقل إلا الكتاب…
أجاب المدير بأنه ليس لديه مال لشراء الكتب، فقال له الأستاذ بدري وكان يتقن الفرنسية– إذن سأطلب من التلاميذ– وكنا ثلاثة أقسام معربة– أن يكتفوا بوجبة الغداء، ويستغنوا عن وجبة العشاء، على أن يخصص ثمنها لشراء الكتب…
“احتج” المدير، ورفض فكرة الاكتفاء بوجبة واحدة، بحجة أنه مسؤول عن التلاميذ– فأجابه الأستاذ بدري بما معناه أننا تربينا على أننا لا نموت على أنصاف بطوننا، وأنك– يا سيادة المدير “لست بأحرص مني على هؤلاء التلاميذ، ومصلحتهم.. وقد كنتم تعدونهم ليكونوا رعاة عندكم.. رضخ المدير، ووفر مبلغا من المال، وتوجه الأستاذ مع ثلة من التلاميذ إلى “المكتبة القومية”، وهي مكتبة مصرية تقع في رقم 11 شارع العربي ابن مهيدي، وانتقى الأستاذ مجموعة من الكتب الأدبية والتاريخية والثقافة العامة، وأسسنا بها مكتبة في قسمنا، أطلق عليها الأستاذ بدري اسم “مكتبة الهداية”.
كان الأستاذ بدري يلزم كل تلميذ بقراءة كتاب في الأسبوع، هو يحدده له، وقد يسأله عنه أمام التلاميذ– وهذا ما وقع لي، فقد ألزمني بقراءة كتاب “آلاء برتر” للكاتب الألماني جوته… قرأت صفحات منه، فلم يعجبني فطويته.
في بداية الأسبوع سألني عن الكتاب الذي قرأته، وهو مسجل في الدفتر.. إن كنت قرأته فعلا. فأجبت بغرور: نعم”
حدجني بنظرة، وقال لي: إن كنت قرأته فلا بد أن كلمة قد استوقفتك، وأنك عرفت معناها لأنها مشروحة في هامش الصفحة.
أجبت بـ “غرور” أكبر، لم تستوقفني كلمة واحدة، فقد فهمتها جميعا…
كنت أجلس أمام طاولة الأستاذ، فقال لي: أنت تكذب، ثم أكد لي أنني لم أقرأ الكتاب، وهو ما لم أفعله، وأمرني بأن أنتقل إلى آخر طاولة في القسم، عقابا لي، أما الكلمة المقصودة فهي “الأهراء” جمع “هري” وهي مخازن الحبوب.
كان الشيخ عبد الحفيظ بدري هو الذي فتح عيني على هذا الكاتب “الزيات” خاصة بعدما نصحني بشراء كتابه القيم “وحي الرسالة”، الذي لم أجده في الجزائر، فما كان من الأستاذ بدري إلا أن أتاني بعنوان مكتبة في الدار البيضاء في المغرب الأقصى، فراسلتها، وبعثت إلي الكتاب، ودفعت ثمنه في مكتب البريد بالجزائر.
قبل أن أتعرف على علماء الجزائر، ابن باديس، والإبراهيمي، وابن نبي، ومحمد العيد، والميلي، كنت “ملوثا فكريا” بجورجي زيدان، وسلامة موسى وأمثالهما، فلما بدأت قراءة مقالات الزيات قبل أن أدعمها بكتابات علمائنا – تطهرت من تلك “الجراثيم الفكرية”.
لقد أسس الزيات أشهر مجلة ثقافية في العالم العربي في النصف الأول من القرن العشرين، حيث امتد صدورها من عام 1933، حتى أوقفها “التقدميون” بعد قيام ما يسمونه “ثورة الضباط الأحرار” التي حولت مصر إلى ما سماه الإمام الإبراهيمي “جمهورية ملكية”.
كثيرا ما تساءلت، وتساءل معي كثير من الإخوة، عن عدم إعادة نشر كتاب “وحي الرسالة”، ولم نهتد إلى جواب… ولعل ذلك متعلق بقضية الحقوق المادية، فهاهي المناسبة قد حلت– بعد خمسين سنة على وفاة الأستاذ أحمد حسن الزيات– وأغلب الدول في ما أعلم تسقط هذه الحقوق بعد خمسين سنة من وفاة صاحبها.
للعلم، فقد كان أحمد حسن الزيات ينقل بعض مقالات الإمام الإبراهيمي وينشرها في “الرسالة”، كما كان من الذين كتبوا عريضة يزكون فيها الإمام الإبراهيمي لعضوية مجمع اللغة العربية في مصر، الذي كان الزيات أحد أعضائه.
رحم الله الأستاذ أحمد حسن الزيات في ذكرى وفاته الخمسين.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
12
  • عبد الواحد

    هذا يدل في رأيي على ضعف شخصية المثقف العربي وتبعيته التامة وعدم ثقته في نفسه وذوقه فتوفيق الحكيم معاصر الزيات الذي درس أيضا في باريس في نفس الفترة صدّق أن أناطول فرانس أديب عظيم. أنا متأكد أن كثيرا من المثقفين العرب لا زالوا اليوم في نفس الوضع النفسي وأن بعضهم سارع إلى ترجمة رواية تجارية ساقطة روّج لها الإعلام اليهودي مثل "دافنتشي كود" في حين أن القارئ العربي محروم من نصوص انجليزية راقية لم يسمع بها لأن الإعلام الغربي المعبأ إيديولوجيا لم يهتم بها.

  • عبد الواحد

    أليس من حقنا أن نستغرب اختيار أحمد حسن الزيات نص "آلام فرتر" لترجمته إلى العربية؟ المثقف العربي المتمكن من اللغة الألمانية من الطبيعي أن يفضل بذل جهوده في تعريب نصوص كبرى كأشعار غوته و رواياته:"سنوات تعلم فلهلم مايستر"، "التجاذب الاختياري"، "سنوات تجوال فلهلم أو الزاهدون"
    ونصوصه المسرحية الكبرى كفاوست أو كلافيجو أو محمّد مثلا(نعم مسرحية عن شخصية نبي الإسلام) أو نصوصه في الفكر والنقد. لِمَ إختيار نص "آلام فرتر"؟

  • عبيد الله

    شكرا على هذا المقال الذي ذكّرنا بزمن جميل مضى كان فيه تلميذ المدرسة المتوسطة يقرأ و يشتري الكتب وكان فيه مكتب البريد العمومي يضمن وصول كتاب إلى مشتريه.
    "آلام فرتر" وليس “آلاء برتر” كما ورد خطأ في المقال هو نص رومنسي مملّ فعلا من النوع المسمّى الرواية الرسائلية ويعبّر عن ذوق نهاية القرن 18م و لا يلائم ذوق القارئ في عصرنا. اعترف أنني لم أطّلع على ترجمة أحمد حسن الزيات بل قرأت النص مترجما إلى الفرنسية.

  • merghenis

    ( كنت “ملوثا فكريا” ...، وسلامة موسى)- من الموسوعة W : " كان للآراء التي أعلنها سلامة موسى أثرها في تعرضه لانتقادات واسعة، فقد وصفه الأديب مصطفى صادق الرافعي بأنه "معاد للإسلام"، وكان الأديب عباس محمود العقاد من منتقديه، إذ بعدما نشر سلامة كتابه "البلاغة العصرية واللغة العربية" أكد أن سلامة موسى "أثبت شيئا هاما؛ هو أنه غير عربي" ثم قال عنه "إنه الكاتب الذي يكتب ليحقد، ويحقد ليكتب، ويدين بالمذاهب ليربح منها"، ثم قال: "إن العلماء يحسبونه على الأدباء والأدباء يحسبونه على العلماء، لهذا فهو المنبت الذي لا علماً قطع ولا أدباً أبقى" كما هاجمته "مجلة الرسالة" الأدبية، ووصفته بأنه..
    ..

  • tokan

    الاء برتر ام الام فرتر لم افهمك في هذه الجزئيه ولا اضن انك لا تعرف كتاب الام فرتر ام ان هناك كتاب اخر لغوته اسمه الاء برتر ارجو ان تنورني

  • merghenis

    تصحيح : " آلام فرتر " عوض “آلاء برتر” كما جاء في النص.الكتاب (194 ص) ،ترجمة أحمد حسن الزيات ، يمكن تحميله.
    ترجمت الرواية من طرف آخرين منهم : أحمد رياض "أحزان فرتر"، 1919

  • merghenis

    ( كتاب “آلاء برتر” للكاتب الألماني جوته…) - آلاء ؟؟؟
    أظن أن الكتاب هو :" Les souffrances du jeune Werther "ينتهي فيه " الطفل" (بمعنى :le héros ) إلى الإنتحار.

  • احسن

    كالعادة ثرثرة بلا معنى عليك بالتقاعد لم تكن في وقت م مفكرا

  • كمال

    الى المدعو عمر
    هاهو شبابكم بماذا تضيعوه يا اصحاب السروال الهابط ؟
    بالهاتف المحمول و العبث به ام بقرقعه مفاتيح حاسوب لا تستفيدون منه الا بالتفاهات ؟
    الجيل الذي قرأ للزيات ( وحي الرساله ) حمل رساله و تأدب بخلق صاحب الرساله و تعلم ولم يتمرد كما تتمردون انتم على كل شئ فيه جهد و تعب .
    مقارنه بسيطه بمواضيع الباك ايام الاستاذ الحسيني و الان تكشف التردي الذي وصلتم اليه .
    و اول الخبل هو الاستخفاف بالاخرين .
    اما العملاق الزيات فهو اكبر من ان يقرأ له امثالك لانكم لن تفقهون منه شئ لجهلكم حتى بابسط قواعد المعرفه و اللغه يا اولاد بنت رمعون

  • عمر

    ظيعتم كل هدا الوقت الثمين واهدرتم ريعان الشباب وطموحاته في قراءه ما..لاينفع الامه وما زلتم تضيعون الوقت في حكايات تجاوزها الوقت ان الشباب الحالي لايقرء هده التفاهات فهو متنور يساير العصر والتطور اما انتم ابقوا في الماضي وحنينه

  • merghenis

    •مقال للكاتب بعنوان: "أستاذي عبد الحفيظ بدري " - بتاريخ : 15/04/2009 -تذكر أساتذته ، أعطى أسماء بعضهم و... من ليس له ذكريات مع الأساتذة في المتوسط و في الثانوي .
    •عبدالحفيظ بدري ( 1915م - 1976 م) ، جزائري، في عام 1963 كان في عمره 48 سنة .له قصيدة شعرية و الباقي ضاع- و نص عنوانه "معركة بدر".
    •مقال للكاتب بعنوان: "السلام على الجزائر" - بتاريخ : 22/10/2008 . جاء في المقال :"وصف الأديب أحمد حسن الزيات، مصطفى كمال أتاتورك بأنه «أحيا دولة، وأمات أمة».

  • خالد الجزائري

    جيلنا كله تأثر بفطاحل الأدباء العرب كنا نلتهم كتبهم التهاما ، هذه الأخيرة كانت متوفرة بأسعار معقولة وفي متناول الطالب المدخر الساعي لإقتناظ أمهات الكتب على خلاف الجيل الحالي فضلا على ارتفاع سعر الكتب فإنه بستخسر اقتناء كتاب من مدخراته حتى الكتب الالكترونية المتوفرة على الشبكة لا يحملها ولا يريد اصلا المطالعة لذا تجده جيل معوق لغويا ومشلول فكريا فاقدا لمعالم طريق المستقبل