-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أزمة العقل العربي في زمن الانقلاب الحضاري الراهن

أزمة العقل العربي في زمن الانقلاب الحضاري الراهن
ح.م

يلبس الإنسان العربي رداء الإحباط التام.. وهو يجد نفسه كائنا حُكم عليه أن يكون عربيا هائما في صحراء شاسعة تحجب الرمال رؤيته بعقل فقد “تأريخيته” كما فقد موضوعيته.

لكن هل يستعيد معنوياته حين يدرك أنه المكتشف الأول لأزمنة الكم والنسبية والتجدد والتجويز؟
ورغم ذلك قد يغادر العربي زمنه الحديث لأنه لا يحمل بصمته.

وهم الخيال، وغزل الماضي، هما الشيئان ذاتهما لإنسان عربي جاء منذ زمن قديم، يتأمل مدينة انتزعت خيمته من مكانها وصادرت نعاجه وبغاله وجمله اليتيم وأطفأت موقد ناره وألقت بدلاله وفناجينه في رفوف الذاكرة، وحنطت معلقاته الشعرية التي يتعبَّدها على جدران كعبته وجعلت من أساطيره رمزا لتأريخ مهمش، وأغلقت عليه كل طرق العودة إلى صحرائه العطشى.

هاهي الحدائق مزيَّنة بهياكل رموز المدينة وبناة مجدها الوهمي، تتعالى فيها أصواتُ الموسيقى السوية لحنا جنائزيا لشعائر الحكمة التي وهبتها السماء لنفوس البشر تبهر تلك الأبّهة اللائقة بإمبراطور ينعكس صفاؤه في عالم بلوري يفتخر بشرائعه الدنيوية كنواميس ينسجم بها الكون.

العربي “المعاصر” المنفي منذ زمن قديم ظل أسيرا في رفوف ذاكراته، وما المدينة الفارغة من عصريتها إلا وجهٌ آخر لمضارب قبيلته، يحكمها القانون ذاته، قانون المطلق الذي لا يعرف نسبية التطور.

وكانت العزلة قدره المحتوم في عالم نسبي.. فهو الخالي من أي إبداع أو تطور أو خلق جديد، فأضحى شكلا ماضيا بلا مضمون حاضر حي، سلفي، يبحث في خزائن تراثه عن أي شيء يظلله أو خيمة يأوي إليها وزمنه الراكد أفقده تاريخية الوجود..

تلك هي باختصار الخصائص البنوية للعقل العربي “الحديث”..!
إذن هل يطوي العربي سجلّ ذكرياته، ويغلق دكاكين بضائعه القديمة، ويؤبِّن ذاته؟!
لا وجود لأمة تنسف وجودها.. إلا تلك الضائعة في متاهات الطرق المؤدية إلى بوابات الحضارة المتجدِّدة.
لكن هي الدعوة لمشروع إعادة التأسيس:

والعقل الأرقى بوعيه.. يدرك أن إعادة التأسيس لا يمكن أن تقوم على نسف القديم كل القديم.. كونه لا يتفق مع هذه النظرية أو تلك.

أوروبا لا تنكر على لسان “برتراند رسل” أن بنيتها العقلية مبنية بفكر “أرسطو” ـ أثر الفلسفة اليونانية على الغرب ـ لكن العقل الأوروبي الحديث الذي تأسس مجددا على يد “ديكارت” قد تجاوز أرسطو نفسه، تجاوزه بمنهج عقلي ومفاهيم جديدة.

إذ أحدثت الثورة العلمية الممتدة بمعطيات التجربة الحسية- العقلية وتطورات النظرية النسبية التي نفت وجود المطلق في الزمان والمكان، الزمان والمكان شيئان نسبيان يتداخلان في الحدث، ومبدأ عدم التجديد الذي أفضى بفكرة التجويز والاحتمالية، فنتائج القياس أثبتت أن حصول الأحداث ليست أمرا حتميا بل محتملا، وصولا إلى مبدأ التغيير والتجدُّد.

أحدثت هذه الثورة حركة كبرى في كيان المفاهيم الفلسفية والمسلَّمات الفكرية للعقل الأوروبي الحديث، وهكذا اختار العقلُ الأوروبي فراق مسلّمات العقل اليوناني دون أن يتحرر نهائيا من مؤثراته.

ويعتقد المفكر العربي محمد عابد الجابري في كتابه “بنية العقل العربي” أن تطوّر حركة العقل العربي بدأ في عصر التدوين، إذ تبلورت هذه الأسس في “علوم الكلام” عند المسلمين في عصر التدوين وتطوراته لتحكم الرؤية البيانية العربية العامة بما في ذلك الرؤية للمكان والزمان والحركة.

الزمان لا معنى له بدون الحركة، والحركة لا معنى لها بدون المكان، الزمان والمكان نسبيان إذن، فما الذي يجرنا إلى الأصل السلفي، وننسف المعطيات العلمية التي أنتجتها الصحراء، ونقطع الصلة بحاضر معاصر، نتجرد فيه من التاريخية والموضوعية.. وكأننا نغادر الزمن؟!

بنية العقل العربي تتشكل وفق رؤية “الجابري” على نظم معرفية ثلاثة:
1ـ البيان: مجموعة المبادئ والأدوات في مضمون الخطاب العربي الإسلامي “لغويا”.
2 ـ العرفان: جهد كاشف، هو خليط من الهواجس والمعتقدات التي تتخطى الحدود المعرفية.
3ـ البرهان: دراسة قائمة على قواعد علمية تعزز نظامي البيان والعِرفان المعرفيين.
لم ينجُ العقل العربي بهذه النظم المعرفية، من مساوئ الانحراف العقائدي، وهو يلجأ إلى ممارسة شطحات روحية، لا شعورية، يستغني فيها الإنسان عن العقل.

يتلبّس الإنسانَ العربي الإحباط التام، وهو يجد نفسه كائنا حُكم عليه أن يكون عربيا هائما في صحراء شاسعة تحجب الرمال رؤيته، بعقل لا تاريخي وعقل لا موضوعي، فدخل في مناطق الفراغ الآخذة بالاتساع يوما بعد يوم، هائما في شواطئ الخيال والإلهام.

لكن هل تتعزز معنوياته، حين يدرك أنه المكتشف الأول لأزمنة الكمّ والنسبية والتجدّد والتجويز، ربما لكنه رغم ذلك سيغادر زمن العصر الحديث لأنه لا يحمل بصمته؟

قد نعتقد هنا أن العقل خال من أي محتوى، هذا إذا ما عدنا إلى مسلّمة التميز بين عقلين:
1ـ العقل المكوَّن.
2ـ العقل المكوِّن.

الأول.. تقبل منظومة قواعد مقررة مقبولة في فترة “بنية العقل العربي” وجود أربعة أسس تؤسس الرؤية اليونانيةـ الأوروبية الحديثة.. وهي مختزنة في اللاشعور الأوروبي:
1ـ الاتصال
2ـ النظام والثابت
3ـ الحتمية
4ـ المطلق
وتطور الفكر العلمي اجتاز هذه الأسس بل نفاها أو فارقها اعتمادا على آليات التجارب المنطقية التي أفضت إلى قوانين عقلية/ مادية جديدة..

وكانت العودة غير المنتظرة إلى المفاهيم التي قال بها سكان الصحراء العربية قديما.. أصحاب الزمن الراكد حاليا والعقل اللاتاريخي.. ووجدت لها الصدى الحقيقي في الزمن المعاصر.. وأثبتها ديكارت وإنشتاين ورذر وفورد وفيرنر هايزنبرغ وديراك.
ويكشف محمد عابد الجابري أن الفعل العربي يتأسس في وجهه البياني الرسمي:

ـ لغة وفقها وكلاما
على الأسس المنطقية الأربعة المتسعة امتدادا في:
1ـ التجزئة والانفصال
2ـ الاحتمال والتجويز
3ـ التجدُّد
4ـ النسبية
تاريخية ما.. فتضحى الحالة قيمة مطلقة.

الثاني: نشاط ذهني يقوم به الفكر حيث البحث والدراسة فيصوغ المفاهيم ويقرر المبادئ.. فيكون “الملكة التي يستطيع بها كل إنسان أن يستخرج من إدراك العلاقات بين الأشياء مبادئ كلية وضرورية”.

* أين موقع العقل العربي الراهن في التصنيفين؟!

لا تفرض الضرورة القصوى نفسها للبحث عن الإجابة، فالتساؤل محور فكري عميق، يدعو العقل إلى البحث والتفكير، وتحريك العقل الساكن بأدوات معاصرة هو الهدف.

* استحقاقات التحوُّل الحضاري: الاستحقاق حصيلة الفعل ونتيجة منطق فكري لا يبدأ من الأصل قاطعا صلته بالحاضر ولا ينتهي به فيقطع صلة التواصل بالمستقبل، ليأتي بناءً إنتاجيا حديثا جوهره العطاء المضاف إلى حضارات الأصل ومستوعبا لخصائص العصر الراهن، متجاوبا معه لا متجاوزا عليه بنظرة أصولية متقهقرة أو حافزا من فوقه دون المرور بالنقاط المكانية الواصلة بينهما، ذلك هو جوهر المشروع الحضاري الراهن المتخلي عن المضمون السياسي المجرد في بُعده الاجتماعي المحرِّك لمسارات الحياة بنسق متطور، لقد جاء الاستحقاق لبلوغ تحول حضاري إنساني راسخ في حيثيات الزمان والمكان مالكا لشروطه المنطقية آخذا بمرونة الموقف الفكري المنفتح حضاريا ورافضا لمعاني التزمّت والعزلة والانغلاق في عالم يكاد يختصر في شاشة بلورية الكترونية..

الوعي المتأصل في الرؤية العقلية للأشياء، عزز القدرة على بناء الفعل التأسيسي لتحوُّل حضاري لا يتخطى مبدأ الانتقالات البديهية للزمن الذي يسجل حضوره الفعلي في المكان المتغير بخصائصه في ظل الانجاز المعاصر..
الاستحقاق، أي استحقاق، لم يكن طارئا، واستحقاق التحول الحضاري تأسيسي لمبادئ فعل جديد يأخذ الزمن الطبيعي في تكوينه ومراحل نضجه وإلا كان استحقاقا هشا.. لا يستقيم بحتميته.

لم يرث العرب فيما ورثوا من إرث متنوع النظام الاجتماعي بمؤسساته وتقاليده ولم تكن مفاهيم الحريات والديمقراطية والتعددية معمولا بها وفق قوانين تشريعية دستورية دينية ودنيوية تيسّر انتقالات التحول الايجابي بصيغة الطبيعية.

لذلك تسعى الحضارة في مشروعها المتكامل نحو استكمال بناء القاعدة العريضة لتأسيس مؤسسات النظام الاجتماعي الجديد وبلورة دورها الشامل وإرساء دعائم التقليد لممارسات حياتية عصرية تلغي نهائيا التركيبة القانونية المقيدة لحركة المجتمع والمعطلة لقواه الإنتاجية الفاعلة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
6
  • خليفة

    ازمة العقل العربي هي في تخبطه و تردده و حيرته ،كيف يعيش المعاصرة دون التفريط في الاصالة ،و كانت هناك مواقف متعددة لبعض المثقفين العرب ،فبعضهم اختار المعاصرة بكل حذافيرها و ارتمى في احضانها دون تمييز غثها من سمينها ،لمسايرة العصر ،بينما فضل البعض التشبث بالماضي حفاظا على الهوية حتى لا يغرق في موجة العصر ،و حاول البعض الاخر شد الحبل من الوسط من خلال الاخذ بالاصالة و المعاصرة معا ،و لكنه وقع في عملية تلفيق بينهما ،و نحن الان في انتظار فريق ثالث يعمل على التوفيق العقلاني و العملي بين معطيات الماضي و متطلبات العصر ،هذا الحل يمكن العربي من ان يكون ابن عصره على اديم مصره حتى لا يكون نسخة لغيره.

  • عقبة

    أزمة العقل العربي في زمن الانقلاب الحضاري الراهن ............. وهل هناك عقل عربي أصلا ؟؟؟

  • جلال

    أذكرك بما قاله ابن وطنك عالم الإجتماع علي الوردي:إننا لا نكف عن الزهو بماضينا العلمي المجيد ولكننا في حاضرنا نقاوم العلم أشد مقاومة, نتفاخر بعلم قديم ونستخف بالعلم الحديث أو نحاربه,إنه طرح عشائري في مواجهة الحضارة...لقد وضعت الأسلحة القديمة كالسيف والرمح وغيرها في المتاحف ليتفرج عليها الناس أو يضحكون عليها لكن المصيبة في بقاء أدوات التفكير والمنطق القديمين ,فيجب أن توضع الى جانب تلك الأسلحة أيضا.. وأقول يجب أن يكون هناك بالمقابل جيش من المفكرين المجددين لربح المعركة ضد جيش المعطلين والجامدين لأن الثابت الوحيد هو الله وعدم الإيمان بالتطور نوع من الشرك فالكل يتغير ويتحول تلك سنة الله في خلقه

  • عبد الله المهاجر

    العروبة ليست دين ولا يقاس عليها فليس كل عربي مسلم وليس كل مسلم عربي
    ان من العرب ملحدين ونصارى ويهود ورافضة مجوس وو ,,
    قلنا الانسان العربي ليس حكرا فهو يساق أيضا من قبل النظام العالمي كما يساق الأسير الى الزنزانة المظلمة
    بشعارات براقة مختلفة " كالتطور الحضري ومواكبة العصر ,,الخ "
    هناك مثل جزائري يلخص الحال , يقال : ( وش يدير الميت في يد غسالوا )
    عندما ترى الشباب العربي ينافس البنات في - التيك توك - حينها تدرك الى أين وصل العقل العربي ولكن لا نجلد أنفسنا ,,لأن الأمر يبقى نسبي ,فبذرة الخير والشر موجودة في كل بشر ,,
    و ان الخير في هذه الأمة باق الى يوم القيامة لا يعدم ,,

  • نحن هنا

    قال الفاروق عمر رضي الله عنه "كنا أذلاء فأعزنا الله باللإسلام فمن ابتغى العزة في غيره أذله الله" إن جلد الذات سهل والتمادي في الباطل أسهل والتفلسف الخزي لايغني عن الحق شيئا ومن يهن يسهل الهوان عليه أذكرك بقول الله تعالى:" لقذ جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ماعنتم حريص عليكم بالمومنين رؤوف رحيم" فإن تولوا فقل حسبي الله عليه توكلت وهو رب العرش العظيم"

  • عبد الله المهاجر

    بسم الله
    - العالم تحكمه امبريالية متوحشة كالأخطبوط ضاربة بخيوطها في كل القطاعات لتدير شؤون المجتمعات سياسيا واقتصاديا متسللة بذلك لتنظم حياة الفرد مهما كانت ديانته بالمنظور التي يناسب مخططاتهم ظاهرها العلمانية وباطنها الماسونية , والانسان العربي ليس حكرا في العالم القوي الذي يتحكم فيه أصحاب الأقدام الثقيلة ليجد نفسه منساقا طوعا أو كرها في أجنداتهم
    ليس علينا أن نجلد أنفسنا بالسوط نلوم ونتهم أنفسنا و نتناسى من يقف وراء مأسينا بمن فيهم عبيدهم الذين يحولون بيننا وبين أعدائنا للدافع عن أنفسنا لتبقى الأمة بين مجدها الغابر ومسقبلها القادم تتخبط لا تهتدي لطريق عزها ونصرها

    والعربي