-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

إعلام “حمّالة الحطب”!

سلطان بركاني
  • 1638
  • 6
إعلام “حمّالة الحطب”!

لعلّه لم يعد يخفى على أحد مدى الانحسار الذي بات يعرفه دور المحابر والمنابر في صناعة قناعات الأمة وتوجّهاتها، لصالح وسائل الإعلام بمختلف أنواعها، وكيف أصبحت الميديا المدعّمة بالمؤثّرات المختلفة تعمل عملها في العقول والقلوب، ما جعل صوت الأئمّة والخطباء يبدو خافتا أمام صوت نجوم الصّحافة والإعلام، الذين يتفنّن كثير منهم في استعمال وسائل وأساليب التّأثير، لغرس القناعات التي عُهد إليهم بترويجها.. وليت هذا الإعلام ينبض بهموم الأمة وآمالها وآلامها أو على الأقلّ يحترم عقيدتها وثوابتها وخصوصياتها، لكنّه في كثير من الأحيان إعلام موجّه، يتحكم فيه من خلف الستار بارونات السياسة وقارونات الاقتصاد، ويُسخّر لصناعة أفكار تخلد بالأمّة إلى الأرض وتزيح الدّين من سلّم الأولويات.
لقد بُليت الأمة الإسلامية في هذا الزمان بإعلام يتحرّك –في غالبه- وفق خيارات أصحاب السلطة والمال، الذين لا يهمّهم في أكثر الأحيان أن تحفظ عقيدة الأمة أو تصان ثوابتها، وإنّما همّهم أن يجنوا الأرباح ويأسروا العقول والقلوب، بل إنّ بعض المتنفّذين المتحكّمين في كثير من وسائل الإعلام يسعون في تخدير العقول وقتل الهمم وإضرام نيران الشهوات وتحويل اهتمام أجيال الأمة من الدين والعقيدة، إلى المآكل والمشارب والمناصب والشّهوات، ((وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا)).
فمَنِ الذي حوّل كثيرا من شباب هذه الأمة إلى أنصاف وأعشار رجال؛ يلبسون الضيّق والمزري من الثياب، ويدهنون الشعور ويتمايلون في المشية ويتذللون في الكلام؛ لا همّ لأحدهم إلا ما يلبس وما يأكل ويشرب؛ أليس هو الإعلام؟ ومن الذي حوّل كثيرا من فتيات المسلمين إلى عارضات أزياء يجبن الشوارع والأرجاء، لا همّ للواحدة منهنّ إلا أن تلفت الأنظار وتحظى بكلمات الإعجاب والإطراء، ويلهثَ خلفها عديمو الرجولة المتشبهون بالنساء؛ أليس هو الإعلام؟
من الذي رفع مكانة أهل الفساد من مغنّي الكباريهات ومتقمّصي الأدوار القذرة، ووضع مكانة المصلحين من الأئمة والعلماء والدّعاة، وجرّأ عليهم النّاس فاستحلوا الكذب عليهم والكلام فيهم بما لا يليق بمقامهم؛ أليس هو الإعلام؟
من الذي قلب الموازين في أمة الإسلام؛ فجعل الحقّ باطلا والباطل حقا، والمبطلَ محقا والمحقّ مبطلا، وجعل من الوالغين في الدماء العابثين بالأعراض أبطالا ترفع صورهم ويُهتف بأسمائهم، وجعل من المظلومين المقهورين شياطين تنسب إليهم بلاوى الأمة كلّها؛ فهُم من تسبّب في سقوط الأندلس وضياع الأقصى، وهم من حبس المطر ومنع الزرع، وهم من ثقب الأوزون وتسبب في الانحباس الحراري!.. أ ليس هو الإعلام؟ إعلام “حمالة الحطب” الذي قلب الموازين في أمة الإسلام، وأجلب بخيله ورجله على العقول والقلوب فأفسدها، وجرّعها خمورا ومخدرات يفوق تأثيرها تأثير الخمور والمخدّرات الحسية.
لقد استغلّ هذا الإعلام “المتعلمن” الحملة العالمية للحرب على الإرهاب، وتمترس خلف دعاوى الحرية الإعلامية، وتبنّى شعارات تجفيف منابع التطرّف، ليعلن حربا لا هوادة فيها، ليس على عناصر التميّز في هذا الدّين فحسب، بل على أصوله ومبادئه وثوابته.
ربّما نسي القائمون على هذا الإعلام وهم في غمرة الفرح بالحرية التي أتيحت لهم لمهاجمة الدّين وأهله، أنّ هذه الأمّة وإن كانت تمرض فإنّها لا تموت، وأنّها إن خدعت برهة من الدّهر فإنّها لا تُخدع الدّهر كلّه، وسيأتي اليوم الذي ينقلب فيه على السّحرة سحرهم، ويحيق بالماكرين مكرهم، ويلقون المصير الذي لقيه معلّمهم الأوّل أبو لهب، الذي أرسى دعائم إعلام الكذب والتّدليس والتّلبيس والبهتان، وسعى لطمس نور الحقّ، فأنزل الله عليه لعائنه، وطمس بصيرته، وجعل نهايته عبرة لغيره؛ لقد كاد أبو لهب يموت كمدا عندمابلغه نبأ انتصار المسلمين في بدر، ثمّ أصيب بقرحة “العدسة” التي كان العرب يتشاءمون منها، ومات بها، ولم يستطع أحد من أقاربه أن يقربه ليدفنه حتى تعفَّن في بيته، وعندما اضطرّ أبناؤه إلى مواراة جيفته، حملوها إلى أعالي مكة، وألقوها من علٍ ورموها بالحجارة حتى وارَوْها.
وهكذا، كما فشل إعلام أبي لهب وزوجته حمّالة الحطب في تشويه صورة النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- والوقوف في وجه دعوته، فإنّ إعلام الدّجل والتّزوير لن تدوم فرحته طويلا، ((وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِين)) (آل عمران: 140).
فعلى الدّعاة والمصلحين والعاملين لهذا الدين، ألا يلهيهم عواء الذئاب ونقيق الضفادع عن المضيّ قدما في طريقهم للتمكين لدين الله عزّ وجلّ. عليهم ألا يحزنوا لهذا الكمّ الهائل من الأكاذيب التي تملأ الفضاء، فمصيرها يوما أن تكون هباءً ونسيا منسيا، ((إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين)) (الحجر: 95- 99).
الدعاة إلى الله والمصلحون ينبغي ألا يستنفدوا طاقاتهم في مقارعة هؤلاء المبطلين والانشغال بترّهاتهم، فالغزال أسرع من الضّبع ولا يقع فريسة له إلا إذا أكثر من الالتفات خلفه وهو يشقّ طريقه.. نعم، ينبغي أن يتخصّص بعض المصلحين في الردّ على ترّهات إعلام الكذب وكشف زيفه، ولكنّه لا ينبغي أبدا أن تنشغل الأمّة كلّها بهذا فينسى القطار وجهته ويتأخّر عن موعده.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
6
  • أبو محمد الجزائري

    إلى الذي أشار إلى اسمه بـــ فوضيللماذا تقدم هذه القراءة المبتسرة للدين الإسلامي الحنيف والتراث عموما... ومن قال إن الدين الإسلامي محشور في الزاوية الضيقة مثل المسيحية بينما نرى جل الدارسين من مسلمين وعرب وغربيين يسلّمون للإسلام بأنه هو الرافد والمحرك الحضاري القوي البارع الذي صنع التاريخ وأشاد الحضارة... هذا التصور الكنسي رؤية علمانية ليست مسلمة لك وللعلمانيين... ثم كيف تحكم على التراث عامة بأنه غامض؟؟؟ وهل الغموض الذي تريده في المستوى المضموني أم المنهجي الإجرائي؟ وفي أي مرحلة من التاريخ؟؟ الخ...

  • فوضيل

    الدين عندما يخرج عن أغراضه الروحية ويتجاوز المسجد إلى شئون الاقتصاد والسياسة فانه يتحول إلى مشكلة، عبر شل إرادة الجماهير بالتابوهات العقائدية ،ومنع عقولها عن التفكير بسطوة الفتوى، رغم أن الخطباء يفتقدون لأي مشروع حضاري إنساني حقيقي يمكن التعويل عليه في نهضتنا،إلا أنهم بارعين في خلق صورة جميلة وايجابية عن المقدس ونبش التراث المليء بالغموض بإغراقه بالعديد من الكلمات والثرثرة بدون نهاية وتثبيتها في العقول على أنها واقع، إن الاستمرار في ممارستهم للعبتهم المفضلة في إثارة الصراعات المذهبية والطائفية ،والتي كان أخرها وليس بآخرها ما جاء على لسان زعيم السلفية الفركوس،فهل بعد كل هذا يمكننا الوثوق بهم؟

  • عين النملة

    التأثيرات السالبة نجدها في كل مكان و زمان
    التربية الغير المنضبطة و العقلية السائدة بين المجتمعات
    الأنترنات بصفة عامة التلفاز و الأفلام المبرمجة لأجيال
    القيود التي يضغط عليها الحرمان حتى يتحطم
    فينطلق صاحب القيود المحطمة بسرعة هربان من حرقة الحرمان
    فيتمرد بكل بهتان ...
    في الحقيقة هذا ليس مشكل دين أو إعلام إنما هو مشكل الإنسان
    مشكل أصاب البشرية جمعاء
    وما هو الإعلام سوى جزء لا يتجزء عن ما تتفوهه الأفواه hh
    كل شيئ مهم فيه خير و فيه شر
    سلام

  • عبد الرحمان

    بوركت، و لهدا سمي الإعلام بنسخة من المسيخ الدجال دي العين الواحدة و هي الشاشة التي تدور الارض في طرفة عين و تريك الجنة نارا و النار جنةو العياذ بالله.لكن لي تعقيب يا دكتور من ان الإعلام غطى على صوت الايمة بل لقدجعل له ايمته على المقاس و الإعلام و الأضواء و ما تمنحك من الشهرة امتحان عسير صعب ان تلتزم فيه خاصة ادا تعودت عليه،و ان تخلص لله وحده و انت تمر على الماكيير و تمضي العقد بالاموال و تخرج من البلاتو ليتعرف عليك الناس،و ما قصة الامام الشعراوي في هذا المقام الا حقيقة ما قد يغلب على النفس تحت الاصواء...كما ان الشيخ الكشك رحمه الله اخد العهد على اولاده على ان لا يكلمو ولا يظهروا في الإعلام .

  • محمد

    قد نسيت أمرا مهما ..وهو أن نفس الأمراء الذين يملكون إمبراطوريات الإعلام الساقط والشهواني...يملكون أيضا وهم نفسهم إمبراطوريات الإعلام الإسلامي المتشدد المتطرف..وذلك لغرض مدروس جيدا..وهو خلق حالة إستقطاب كبير جدا في كل شعب من الشعوب العربية ..بحيث لاتوجد منطقة تفاهم وتسامح في الوسط بين التيار الليبرالي والتيار الإسلامي.. وبحيث يكثر عدد المنتسبين لكلا التيارين المتطرفين في مقابل قلة منتسبي تيارات الوسط..وذلك مايؤدي حتما للمواجهة ..أو على الأقل للخصومة طويلة الأمد التي تضعف البلد وتسمح للأجنبي بإستغلال نقاط ضعفه للتغلغل والتملك وفرض الرأي عليه...فأي بلد قوي، قوي بمدى ترابط مجتمعه وتوحده.

  • جمال

    الخطباء فقدوا مصداقيتهم لأنهم اصبحوا مسيسين حتى النخاع. الاسلام يدعو إلى الوحدة وهم يدعون إلى الفتن وتشتيت الصف الإسلامي بحجج كاذبة غايتها النفوذ السياسي وليس الإسلام.