-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

إنّها رحلة جِدُّ قصيرة!

سلطان بركاني
  • 1496
  • 3
إنّها رحلة جِدُّ قصيرة!
ح.م

يُروى في القصص الرّمزية أنّ شابا حليما دمث الأخلاق، كان راكبا على متن حافلة، وكان المقعد الذي بجانبه شاغرا، توقفت الحافلة في منتصف الطريق، ليركب رجل يحمل معه بعض الأغراض، ركب إلى جانب الشابّ بعد أن آذاه بأغراضه ولطمه في وجهه وضيق عليه! لم يكلف الرجل نفسه عناء الاعتذار! ومع ذلك لم يزد الشابّ على أن ابتسم. سارت الحافلة حتى بلغت الوجهة التي ينزل فيها الشابّ. استأذن من الرجل الذي بجانبه بكلّ لطف ليسمح له بالنزول، ولكنّ الرجل كشّر في وجهه وأبدى انزعاجه، والفتى لم يزد على الابتسامة والاعتذار.

نزل مع الشابّ رجل آخر كان يتابع الموقف عن كثب، وما أن استقرّ بهما الموقف على الرّصيف حتى أخذ بيد ذلك الشابّ وقال: لو كنتُ مكانك لعلّمت ذلك الرّجل الفظّ درسا قاسيا في الأدب لن ينساه، وهنا ابتسم الشابّ مرّة ثالثة وقال للرّجل: ليس من الضروري أن تكون قاسياً وتحرق أعصابك وتجادل لأجل شيء تافه؛ وكما رأيتَ فالرحلة كانت قصيرة جدا، ولا تستحقّ الخلاف والجدال وارتفاع الأصوات!

هذه الكلمات التي نطق بها هذا الشابّ الذي فهم حقيقة الحياة، تستحقّ أن تكون مبدءًا نتمثّله في حياتنا كلّها؛ فالدّنيا كلّها رحلة قصيرة، لا تستحقّ أن نتخاصم ونتعادى ونتدابر لأجل متاعها الزّائل، ولا تستحقّ أن نحرق أعصابنا ونرفع أصواتنا ونملأ قلوبنا هما وغما لأجلها.. نحن في هذه الدّار مسافرون، ويوشك كلّ واحد منّا أن يبلغ وجهته وينزل من رحلته.

نعم أخي المؤمن.. ليس ضروريا أن تخاصم وتعادي جارك لأجل بضعة أمتار بين مسكنك ومسكنه أو بين أرضك وأرضه، أو لأجل شجار نشب بين ابنك وابنه؛ فكلّ شيء زائل وكلّ موقف سيمرّ، وأيام العمر معدودة والرّحلة قصيرة، ويوشك أن نحطّ جميعا الرّحال في دار أخرى.. ليس ضروريا أن تعادي أخاك ابن أبيك وأمّك لأجل حظّ من الدّنيا من مال أو أمسكن، فالدّنيا زائلة والرّحلة قصيرة، وعمّا قريب تغرب شمس العمر، ويكون الموعد بين يدي الله.. ليس من الضروري أن تكون قاسياً على كلّ من أخطأ في حقّك بكلمة أو نظرة أو موقف أو أخذ منك حظا من حظوظ الدّنيا، فالدّنيا زائلة والرّحلة قصيرة، والمحطّة بدأت تقترب.. ليس ضروريا أن تردّ على كلّ من رفع صوته في وجهك في السّوق أو جادلك في الطّريق.. فأنت وهو راكبان في رحلة العمر والرحلة قصيرة، والمحطّة تقترب شيئا فشيئا.

عندما نتذكّر أنّ الرّحلة قصيرة، لن نملأ وقتها القصير بالجدال والخصام لأجل كلمات أو مواقف أو أشياء تافهة.. لن نتردّد في العفو عن الآخرين، مهما حاولت أنفسنا أن تصوّر لنا بأنّ أخطاءهم كبيرة، فالعمر قصير والرحلة قصيرة، والله يقول: ((وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُور)).

نعم أخي المؤمن.. العمر أمره عجيب وغريب؛ مهما ظننته قصيرا فهو أقصر ممّا تظنّ. عندما تنظر في حالك وتراجع سنوات رحلتك، ستتذكّر أنّك قبل سنوات قليلة كنت طفلا تلهو وتلعب لا همّ لك سوى ذلك، ثمّ صرت شابا تنادي كبار السنّ: يا عمّاه ويا حاجّ، ثمّ ها أنت ذا قد صرت كهلا وبدأ الشّيب يخطّ في رأسك وعارضيك خطوطه، وبدأ الشّباب ينادونك يا عمّاه ويا حاجّ، وعمّا قريب ربّما تصبح جدا.. وهكذا تمضي الرّحلة حتى تجد نفسك تودّع الدّنيا وتوصي من خلفك.. نبيّ الله نوح عليه السّلام، مكث في هذه الدّنيا ألف سنة إلا خمسين عاماً، في الدعوة فقط، وعندما سئل في أواخر أيامه من الدّنيا: كيف رأيت عمرك؟ قال: “كأني دخلت مع باب وخرجت من الباب الآخر”.

نعم أخي المؤمن.. أيا كان عمرك، سواءٌ كنت شابا أم شيخا، فالرّحلة قصيرة والعمر أقصر ممّا تتوقّع.. فلا تشغل نفسك في هذه الرّحلة القصيرة بما يضيّع وقتك ويحرق أعصابك ويملأ قلبك هما وغما.. إذا أساء إليك أحدهم بكلمة، كن هادئا.فالرحلة قصيرة جدا.. إذا خانك أو غشك أو استهزأ بك أحدهم. كن هادئا، فالرحلة قصيرة جدا.. مهما كان نوع الظلم الذي لحق بك من بعضهم، فلا تردّ بالمثل، واسع لرفع الظّلم عن نفسك بالتي هي أحسن وأنت تستحضر أنّك ومن ظلمك في رحلة قصيرة، وأنّها عمّا قريب ستنتهي ويكون الحساب والقصاص بين يدي الله.. إذا أحسنت إلى أحدهم وأسديت إليه معروفا، ففوجئت به يتنكّر لمعروفك، ويشكر غيرك، وربّما يقابل إحسانك بالإساءة، فلا تحزن ولا تندم، فالرحلة قصيرة، والجزاء الأوفى والأكمل عند الله الذي لا يضيع أجر المحسنين.. إذا ابتليت بمن غمطك حقّك، ولم يحترمك، ولم يقدرك حق التقدير، فلا تضيّع وقتك في تذكيره بقيمتك، فالرّحلة قصيرة، والمقام الأهنأ والأدوم عند الله، والثّناء الذي ينفعك هو ثناء الله وثناء الملائكة المقربين عليك عند الله.

الرّحلة في هذه الدّنيا قصيرة، وعندما تنتهي لا يمكن استئنافها من جديد، والذي ينفع الواحد منّا حقيقة هو ما يدّخره لنفسه في دار البقاء، وما يضرّه حقيقة هو ما يجنيه على نفسه لمستقرّه بعد رحلة الدّنيا.
الأعمار قصيرة والأيام تمضي بسرعة عجيبة، ولكلّ منّا محطّة لا يدري أين ومتى هي، لكنّ شروق وغروب الشّمس وساعة هاتفه أو يده، تنبؤه بحقيقة الرّحلة.

من أهمّ المواقع اللافتة للانتباه على شبكة الإنترنت والتي أنصح نفسي وإخواني بالدّخول إليها من حين إلى آخر، موقع “إحصائيات العالم محدّثة آنيا”.. يحتوي معلومات كثيرة، وأرقاما عديدة تتغيّر بسرعة عجيبة، بينها: عدد الوفيات منذ بدء العام، وعدد الوفيات منذ بدء اليوم.. تنظر إلى عداد الوفيات فتُذهل كيف يتغير بتلك السرعة المذهلة، فتدرك حتما أنّ هذه الحياة الدّنيا رحلة قصيرة، وأنّ الرّحيل فيها هو الحدث الأهمّ والأبرز.
الرحلة قصيرة والأعمار قصيرة، فينبغي أن نتنبّه في أيّ شيء نقضي رحلتنا ونفني أعمارنا؟ كم نأخذ للباقية من الفانية، وكم نأخذ من الباقية للفانية؟
إنّنا لو صدقنا مع أنفسنا لرأينا أنّنا نقضي الرحلة القصيرة في ملء قلوبنا بالدّنيا وأوقاتنا في التنافس والتدابر والتشاحن لأجلها، ونهدر أوقاتنا غالبا فيما لا ينفعنا في الدّنيا ولا في الآخرة.. تأمّل أخي المؤمن هذه الحقيقة التي تعيشها كلّ يوم وكلّ ليلة.. يطول بك الليل وأنت تتنقّل على شاشة هاتفك بين “الفيس بوك” و”اليوتيوب” ومختلف مواقع التواصل الاجتماعي، تتابع جديد ما ينشره الأصدقاء والخلان، ثم في آخر اللّيل لا تستطيع أن تقف بين يدي ربّك ولو بركعة، بل ربّما تنام عن صلاة الفجر، ولا تستيقظ إلا بعد شروق الشّمس! تمضي ساعاتك كلّ يوم في القيل والقال وبين القنوات والجلسات، تمضي ساعات طوال من بين يديك كلّ يوم، وأنت مقصر في ذكر الله وقراءة القرءان وفي برّ والديك وصلة أرحامك وإسداء الخير والعون إلى جيرانك والنّاس من حولك! ألا فلنتنبّه قبل فوات الأوان، فإنّ الرّحلة قصيرة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • الماز

    قد يتنازل الشخص مرة او مرتين أو ثلاث لمن يحبهم لإن الرحلة قصيرة ولكن في بعض الأحيان يريدونها الرحلة أن تكون أقصر بكثير!!!

  • محمد راهن

    مقال رائع يستحق القراءة و الاهتمام .
    تطرقت لكل تفاصيل الحياة و الدين نصيحة نشكرك على حسن التعبير ، سنقرأ المزيد منك

  • fatiha

    أحسن مقال قرأته في حياتي.اللهم أحسن خاتمتنا.