-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

إياكم وهيشات الأسواق

سلطان بركاني
  • 654
  • 2
إياكم وهيشات الأسواق

تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي في الأيام القليلة الماضية، مقطعا مصورا، لشاب متحمّس محبّ للخير، نحسبه كذلك، قام في أحد مساجد ولاية قسنطينة، بعد خطبة العيد، يستنكر على الخطيب تسييس المنبر! ويتّهم بعض الأئمّة بأنّهم يحاولون ركوب الحراك، بعد أن سكتوا عن الفساد العامّ أكثر من 20 سنة.. ومع أنّ اعتراضه لقي استهجانا واسعا بين رواد المسجد، لعدم مراعاة حرمة الزّمان والمكان، إلا أنّه أصرّ على الكلام بنبرة حادّة وصوت مرتفع، في بيت من بيوت الله، في يوم هو أفضل أيام الدنيا، يفترض أن يكون يوما للتسامح وإشاعة الكلام الطيب.

الإمام، أيا كان مستواه، وأيا كانت درجة وعيه، هو في البداية والنّهاية بشر، يؤخذ من قوله ويردّ، ومن واجب الأمّة أن تنصح له إن هو أخطأ، لكنّ مناصحته في بيت الله، ينبغي أن تراعَى فيها خصوصية المقاموالمكان والزّمان، والإمام المعترَض عليه في الواقعة المشار إليها، لو كان ممّن عرفوا بالتزلّف إلى المسؤولين أو سُجّلت له مواقف قبل ذلك ضدّ حراك الجزائريين، أو كلام يتعصّب فيه لجهة معيّنة يسخّر المنبر لتلميعها، لما كان ينبغيلهذا الشابّ أن يرفع صوته في بيت من بيوت الله بمثل تلك النبرة، في مثل ذلك اليوم، ويخاطبالإمام ويتكلّم عنه بكلماتتنمّعن البغض والعداء لخطيب يفترض أن يعامل بالاحترام، ويعترض عليه إن هو أخطأ برفق وأدب.. كيف والإمام المعترَض عليه، يحمل شهادة الدكتوراه في العلوم الشرعية، ومعروف عنه في ولاية قسنطينة بعده عن التزلف للمسؤولين، ورفضه للخطابات الفوقية التي يراد تمريرها من على منابر المساجد؟ علاوة على أنّه لم يزد في خطبته على أن حذّر من مؤامرات أذناب فرنسا للفتنة بين الجزائريين، ودعا الله أن يحمي الجزائر وشعبها وجيشها، وهو الموقف الذي يشترك فيه جلّ الجزائريين، وإن اختلفوا بعد ذلك في موقفهم من بعض القيادات والأسماء.. ربّما نختلف مع الإمام في بعض عباراته أو حتى في بعض مضامين كلامه، وقد نذهب بعيدا فنلومه في حديثه في شأن يختلف فيه المختلفون في خطبة يفترض أن تجمع ولا تفرّق، لكن أن يصل الأمر إلى حدّ منابذته ومحاولة إثارة المصلين ضدّه، فهذا لا يصلح ولا يليق أبدا.

لقد اندفع الشابّ خلف حماسه وانقاد لغضبه ورمى الإمام بتهمة تسييس المسجد، وهي التهمة التي لا يفتأ العلمانيون يردّدونها، بحقّ أحيانا وبباطل في أكثر الأحيان، وكانت الواقعة فرصة العمر التي تلقّفتها صحفهموقنواتهم ومواقعهم، ونفخت فيها، وقدّمتهاعلى أنّها تمثّل موقفا عامّا لكلّ الجزائريين الذين يرفضون –حسب الصحافة إياها- أيّ كلام يخصّ الشّأن العامّ من على منابر المساجد! مع أنّ الجزائريين استنكروا ولا يزالون يستنكرون إحجام كثير من الأئمّة في سنوات مضت عن الخوض في القضايا المصيرية التي تخصّ البلد وسكوتهم عن المنكرات العظيمة التي شاعت في العقود الماضية، وعلى رأسها إعلان الحرب على عناصر الهوية، إشاعة الانحلال، نهب ثروات البلد، سرقة أقوات النّاس، وتحويل البلد إلى مزرعة خلفية للعدوّ الفرنسيّ…

الجزائريون استنكروا ولا يزالون يستنكرون أن يكون خطيب المنبر، مثله مثل صحفي النّشرة، يتلو على مسامع المصلّين ما يريد لهم المسؤولون أن يسمعوه، ويريدون –أي الجزائريين- للخطيب أن يكون ناطقا بالحقّ ناصحا لأئمّة المسلمين وحكّامهم ومسؤوليهم قبل عامّتهم، بالحكمة والموعظة الحسنة والكلام الذي يبني ويصلح بعيدا عن الإثارة والتهييج.. بخلاف العلمانيين الذين يريدون للمنابر ألا تبتعد عن حديث العبادات والأخلاق والآداب!

لقد سوّلت لهذا الشابّ المتحمّس نفسه الوقوع فيما حذّر منه النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- حينما قال: “ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى، ثم الذي يلونهم، ثلاثا، وإياكم وهيشات الأسواق” (رواه مسلم)، فبيوت الله أحبّ الأماكن إليه سبحانه، لا يصلح ولا يستقيم أن تنتقل إليها أخلاق الأسواق، ولا يصلح أبدا أن تكون محلا للخصومات والمنازعات وارتفاع الأصوات؛ فهي أماكن يفترض أن يجد فيها المسلم راحته وأنسه وسكينته، بعيدا عن ضجيج الدنيا وهمومها ونزاعاتها التي ملأت البيوت والأسواق والأماكن العامّة، بل حتّى تلك المخصّصة للرّاحة والاستجمام لم تعد صالحة لذلك، بعد أن سيطر عليها بعض الشّباب التائهين وفرضوا فيها منطقهم.

لقد فتح حراك الجزائريين الباب لانتقاد القادة السياسيين، وانتقاد زعماء الأحزاب والمسؤولين على اختلاف درجات مسؤولياتهم، كما فتح باب الاعتراض على العلماء والدّعاة وخطباء المساجد، وهو مكسب مهمّ لا ينبغي التخلّي عنه، وإنّما ينبغي تحليته بالحكمة والعقل، خاصّة عندما يتعلّق الأمر ببيوت الله، فينبغي أن تراعى حرمة المكان والزّمان، وينظر إلى مقام الخطيب قبل النّظر إلى شخصه، وإن اعترض معترض، فليكن اعتراضه بأدب وعلم، حتى لا تتحوّل بيوت الله إلى ساحات للخصام والجدال والخلاف، وتفقد هيبتها في النّفوس، وهو ما يرنو إليه العلمانيون الذين يفركون أيديهم ويضحكون ملء أشداقهم، وهم يرون هذه الوقائع ويسمعون عنها، فهم يتمنّون أن يزهد الجيل الجديد من الشّباب في المساجد، وتفرغ بيوت الله من روادها.

إنّنا في أمسّ الحاجة في أيامنا هذه إلى إعادة السّكينة التي بدأت تُفقد في أكثر مساجدنا، بعدما أصبحت لا تختلف في كثير من الأحيان عن الأسواق والمقاهي!وهذه مسؤولية مشتركة بين الأئمّة الذين ينبغي أن يتحلّوا بالحكمة في خطاباتهم وبين رواد المساجد الذين ينبغي أن يوطّنوا أنفسهم على تعظيم شعائر الله، وعلى حفظ هيبة المسجد ومراعاة خصوصيته، ليس فيما يتعلّق بمكانة الإمام فحسب، بل قبل ذلك فيما يتعلّق بيت الله الذي ينبغي أن يصان عن كثير من المباحات فضلا عن المكروهات والمحرّمات، ويصان عن الجدال والخصام وأحاديث الدّنيا.. إنّ القلب ليحزن وإنّ العين لتدمع لما آلت إليه أحوال بيوت الله في أيامنا هذه؛تدخل المسجد فترى المصلّين حِلقا حِلقا، تعلو أصواتهم بحديث الدّنيا وبأخبار الأسعار والرواتب والعلاوات، وربّما تنشب بين بعضهم الخصامات والنزاعات وترتفع الأصوات بالسّباب والشّتائم بسبب خلاف حول مكان في المسجد أو نافذة يفتحها هذا ويغلقها ذاك، أو بسبب عبث بعض الأطفال الذين تحوّلت المساجد بالنّسبة إليهم إلى أماكن مفضّلة للّهو والعبث، يقصدونها لا رغبة في تعلّم الصّلاة ولكن للمشاغبة واللّعب وإثارة الفوضى أثناء الصّلاة.. نعم، من واجب الإمام وموظّفي المسجد والمصلّين أن يتحمّلوا الأخطاء التي تبدر من الأطفال المقبلين على المساجد رجاءَ أن تتعلّق قلوبهم ببيوتالله ويتربّوا بين أحضانها بعيدا عن أماكن الرّيبة، لكن ينبغي أن يعلّم الأطفال أنّ المسجد ليس كأيّ مكان آخر، لأنّه بيت الله، له قدسيته وهيبته وخصوصيته، وهو مكان تطلب فيه السّكينة والطّمأنينة، وينبغي ألا يترك الأطفال يحوّلونه إلى ملعب، بل ينبغي أن يعلّموا ويؤخذ بأيديهم برفق حتى يتعلّموا الصّلاة ويتأدّبوا بآداب المساجد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • zak

    تقلبو الفيستا و تلعبو بالكلمات العلماء و الائمة تتعاملون مع كلامهم كمقدسات و تخوفون الناس من انتقادهم و لما كشفت الحقائق و الاكاذيب صارو بشر و يخطؤون التجارة في الدين انتم اسيادها

  • صالح بوقدير

    من قال: "لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا" لمن قالها وأين؟