-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ابن خلدون في البيت الأبيض

بحوح نورالدين
  • 1758
  • 4
ابن خلدون في البيت الأبيض
ح.م

في شهر أفريل من سنة 2017 كشف الرَّئيس الأمريكي دونالد ترامب عن تفاصيل خطّته لزيادة النّموّ الإقتصادي وتوفير مناصب الشغل والوظائف للأمريكيّين، وخفض الأعباء الضّريبيّة على الأفراد والأسر والمؤسّسات. وكان ممّا ذكره أيضًا ضمن  خطّته للاصلاح الضّريبي أنّه سيقوم باحياء نظريَّة “منحنى لافر” بعد أربعين سنة من ظهورها في ثمانينات القرن الماضي و التي تُنسب الى الإقتصادي الأمريكي “آثر لافر”. وتعكس هذه النّظريّة تفكيرمدرسة”اقتصاد جانب العرض” التي يُمثّلها لافر،وترى أنّ التّخفيضات الضّريبيّة على الأثرياء وأصحاب الأجورالعالية والمؤسّسات الكبيرة تؤدّي تلقائيّا الى زيادة الاستثمارات الاقتصادية وتنشّط التعاملات التجاريّة، أو بالأحرى أنّ هناك علاقة ارتباط ايجابي بين نسب التّضريب وإيرادات ميزانيّة الدّولة، تنعكس عندما تتجاوز نسب التّضريب “العتبة الحرجة”.

 إنّه حتّى الآن وبعد هذه الأسطر القليلة التي كتبناها لم نشر في بداية هذا المقال إلاَّ إلى اسم “آثر لافر” الاقتصادي الأمريكي ولم نذكر اسم ابن خلدون، وحتّى لا نترك القارئ في حيرة،ونُعرِّف بدور ابن خلدون في الاصلاح الضّريبي الأمريكي ودخوله الى البيت الأبيض في سنوات الثّمانينات فإنّه يتحتّم علينا أن نعود الى سنة 1974 وأن نذهب الى فندق “القارّتان” بالعاصمة واشنطن ليس بعيدًا عن البيت الأبيض فمن هناك تبدأ الحكاية.

1ــ في فندق “القارّتان” بوانشطن دي سي سنة 1974م:

في ليلة من سنة 1974م، لم يذكر من نقل لنا هذه الرّواية في أي يومٍ ولا في أيّ شهر ولا في أيّ فصل كانت، جلس الاقتصاديّ الأمريكي آثر لافَر الى الطّاولة في مطعم “القارّتان” بالعاصمة واشنطن بعد دعوته الى مأدبة عشاء من طرف دونالد رامسفيلد مدير مكتب الرّئيس جيرالد فورد ومساعده ديك شيني، والصّحفي بجريدة “وول ستريت جورنال” آنذاك “جود فانيسكي” الّذي سجّل كلّ ما دار بين الثّلاثة من حديث ودردشات ونقاشات، ثمّ نشره في الجريدة التي يعمل بها.

وممّا نقل لنا فانيسيكي أنّ آثر لافر أخذ غطاء الخِوان (غطاءالطّاولة) ورسم عليه المنحنى الّذي سيحمل اسمه لاحقًا بهدف توضيح نظريّته التي حاول من خلالها التّدليل لرامسفيلد وديك شيني على أنَّ خفض الضرائب من شأنه أن يساهم في خلق نموّ اقتصادي يمكّنه من توليد إيرادات ضريبيّة جديدة وأنَّ كثيرٌ من الضّريبة يقتل الضَّريبة، فعندما تكون الاقتطاعات الضريبية الإجبارية في حدود عليا يكون كلّ اضافة ضريبية جديدة سببًا في تراجع المداخيل،لأن الفاعلين الاقتصاديين يقارنون بين جدوى كلّ وحدة عمل إضافية مع الدخل الناتج عنها. ممَّا يؤثرسلبا على مرونة وعاء المداخيل الضّريبية، فتتراجع بفعل تباطؤ العمل والاستثمار.

تقول نظريّة “منحنى لافر” أنّه كُلّما زادت معدّلات الضّرائب كلّما زادت ايرادات الدّولة الكلّية وفق منحنى حتّى تصل هذه الزّيّادات الى مستوى أسماه لافر “العتبة (الحدوة)الحرجة” تبدأ معها الايرادات بالانخفاض والتّراجع ممَّا يُؤثّر سلبًا في الاقتصاد والانتاج.  فلو أنّ الحكومة فرضت نسبة 0% من الضّرائب فإنَّ فرصة حصولها على ايرادات ستكون(0)، ونفس الشّي لو أنّ الحكومة فرضت 100% فهنا لن تجد أيّ أحد يعمل، لأنّ حافز العمل وهو الرّبح أو مردودية العمل انعدم، واذا توقّف الجميع عن العمل فإنّ ايرادات الدّولة ستكون عند الصِفر.

إنَّ الزيادة المفرطة للاقتطاعات الضّريبيّة (الضّغط الضّريبي المُفرط) يُؤدّي إمّا إلى عزوف النّاشطين الإقتصاديّين عن الاستثمار وعزوف العمّال عن العمل مادام جلّ مردود استثمارهم وعملهم تستولي عليه الدّولة في شكل ضرائب وجبايات. هذا العزوف عن الاستثماروالعمل تجني منه الدّولة ضرائب قليلة رغم زيادة معدّلاتها ممّا يوقعها في صعوبات ماليّة و اجتماعيّة والعكس صحيح فإنّ كلّ تخفيض للاقتطاعات الضّريبيّة يُحفّزالنَّاشطين الاقتصاديين على الاستثمار في ميادين جديدة ومبتكرة فتزيد أرباحهم وتزيد معها مناصب الشّغل، وترتفع أجور العمّال والموظّفين، ممّا سيزيد من ايرادات الدّولة، ويُنعش الاقتصاد.

خرج لافر من المطعم ويبدو أنّه لم يقنع رامسفيلد وديك شيني بالشّكل الكافي بفكرته. يكنّه وجد في اليوم التّالي أنّ الصّحافي جود فاسينكي قد نشر مقالا عن نظريّته أسماه “منحنى لافر” ولأنّه كان مدركًا بأنّ الفكرة لم تكن فكرته، كتب مقالا يُؤكّد فيه أنّه لم يأت بجديد وأنّ الفكرة مقتبسة من كتاب “المقدّمة” للفيلسوف الاجتماعي المسلم عبد الرّحمان ابن خلدون الّذي عاش في نهاية القرن الرَّابع عشر ميلادي.

تحمّس فانيسكي الّذي كان الى جانب عمله في الصّحافة أستاذا للاقتصاد السّيّاسي لنظريّة آثر لافر فنشر في سنة 1978م بحثا أسماه “الطّريقة التي يعمل بها العالم” أورد فيه نظرته لإقتصاد جانب العرض وشرح فيه سبب فشل نظام معدّل الضّريبة التّصاعدي والسّياسة النّقدية الأمريكيّة ودعا الى خفض المعدّلات الضّريبيّة لتشجيع النّمو الاقتصادي والتبادلات التجاريّة، واستطاع أن يقنع الرّئيس الأمريكي ريغن والجمهوريين بتبنّي هذه السّياسة عند تولّي ريغن لرئاسة أمريكا.

2ــ في مغارة بني سلامة بفرندة(تيارت)سنة 1377م:

لم يذكر لنا آثر لافر من أيّ فصل ولا من أيّ باب من مقدّمة ابن خلدون اقتبس نظريّيته في الضّرائب ولكن يكفيه أنّه كان أمينًا في أبحاثه ونسب الفكرة الى صاحبها رغم التّباين الثّقافي والتباعد الزّماني بينه وبين ابن خلدون.

إنّه يكيفينا فقط بعض الجهد وبعض السّفرعبر الزّمان والمكان ونعود الى سنة 1377م فنلج مغارة بني سلامة بفرندة لنجد ابن خلدون مستغرقًا في التّأمّل ومُكبًّا على كتابة الفصل الثّامن والثَّلاثين: “في الجباية وسبب قِلّتها وكثرتها”،والفصل التّاسع والثَّلاثين:”في ضرب المكوس أواخر الدّولة” وكلا الفصلين من الباب الثّالث: “في الدّول العامّة والملك والخلافة”.

 يقول ابن خلدون في فصل ” الجباية وسبب قلّتها وكثرتها”

“اعلم أن الجباية(الرسوم) على الناس في بداية نشأة الدولة تكون قليلة، وفي آخر الدولة تكون كثيرة والسبب في ذلك: أنّ الدّولة إن كانت قائمة على الدين فليست تأخذ من الناس الا المغارم الشرعية من الصّدقات والزكاة والخراج والجزية، وهي حدود لاتتعدّى.

أو تكون الدّولة قامت ونشأت بالتغلّب والعصبيّة وفيها البداوة، والبداوة تقتضي المسامحة والمكارمة والتغافل عن أموال النّاس.

وإذا قّلت الجباية على الرعايا نشطوا للعمل ورغبوا فيه،فتكثر التنميه ويزدهر الإقتصاد لقلة المغرم عليهم وحصول الفائدة لهم،فتكثر الوظائف ويكثر خراج الدّولة. فإذا استمرت الدولة واتصلت وتعاقب ملوكها واحداً بعد واحد،وذهب منها سر البداوة وخُلُقها من الإغضاء والتجافي، وجاء الملك العضوض والحضارة،وتخّلق أهل الدولة حينئذٍ بخلق التحذلق،وكثرت مصاريفهم بسبب ما انغمسوا فيه من النعيم والتّرف، فيكثرون الجباية حينها على الرّعايا والفلاّحين وسائر أهل الأعمال، ويزيدون في كل وظيفة مغرماً لتكثر لهم الجباية،ويضعون المكوس والرسوم على المبايعات. ثم تتدرج الزيادات فيها بمقدار بعد مقدار لزيادة نفقات الدولة في الترف وكثرة الحاجات والإنفاق بسببه حتى تثقل المغارم على الرعايا.

فتقل رغبة الناس عن العمل لذهاب الأمل من نفوسهم بقلة النفع إذا قارن بين نفعه ومغارمه، فتنقبض كثير من الأيدي عن العمل جملة، فتنقص بسبب ذلك جباية الخراج(تعجز الميزانية)،وربما يزيدون في الجباية إذا رأو النقص في الخراج(الواردات)، ويحسبونه جبرًا لما نقص حتى تنتهي كل وظيفة إلى غاية ليس لها نفع ولا فائدة لكثرة المغارم عليها ، فلا يزال الخراج في نقص والجباية في زيادة، إلى أن ينتقص العمران بذهاب الفائدة المرجوة منه،ويعود وبال ذلك على الدولة لأن فائدة الإعتمارعائدة إليها.

إذا فهمت ذلك علمت أن أقوى الأسباب في الإعتمار تقليل مقدارالرسوم على المعتمرين (المستثمرين) ما أمكن ذلك،فبذلك تنبسط النفوس لثقتها بإدراك المنفعة في أي عمل تعمله”.

ثمّ يُضيف في الفصل التّاسع والثّلاثين:

” … أنَّ الدّولة تكون في أوّلها بدويّة … فيكون خرجُها وإنفاقها قليل، فيكون حينئذٍ في الجباية وفاء بأزيد منها، بل يفضل منها كثير عن حاجاتهم. ثمَّ لا تلبث أن تأخذ بدين الحضارة في التّرف وعوائدها، وتجري على نهج الدّول السّابقة قبلها. ثيكثر لذلك خراج أهل الدَّولة، ويكثر خِراج السُّلطان خصوصًا كثرة بالغة بنفقته في خاصّته وكثرة عطائه، ولا تفِ بذلك الجباية. فتحتاج بذلك الدّولة الى الزيادة في الجباية… فيزيد الخِراج في والحاجات والتدريج في عوائد التَّرف وفي العطاء للحامية، ويدرك الدّولة الهرم… فتقلّ الجباية وتكثر العوائد فيستحدث صاحب الدّولة أنواعًا من الجباية يضربها على المبيعات ويفرض لها قدرا معلوما على الأثمان في الأسواق،وعلى أعيان السّلع في المدينة… فتكسد الأسواق لفساد الآمال، ويُؤذّن ذلك باختلال العمران، ويعود على الدّولة، ولا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضمحلّ.

وقد وقع منه بأمصار المشرق في أخريات الدولة العباسية والعبيدية كثير، وفرضت المغارم على الحُجّاج. وأسقط صلاح الدّين أيوب تلك الرّسوم جملة وأعاضها بآثار الخير، وكذلك وقع بالأندلس لعهد ملوك الطوائف، حتى أزال ذلك يوسف بن تاشفين أمير المرابطين”.

وبالمقارنة بين نظريّة ابن خلدون الضّريبيّة وبين منحنى لافر لا نجد هناك فرقًا كبيرا بل تطابقًا يكاد يكون كُلّيًا وما اختلفا إلاّ في طريقة الوصول الى النّتيجة (زيادة المعدّلات الضّريبيّة تُؤدّي الى خفض الحصيلة الضّريبيّة).فالاقتصادي آثر لافر بنى نظريّته على حسابات رياضيّة وأسس اقتصاديّة،وابن خلدون كانت منطلقاته تأمّليّة اجتكماعيّة، ساندتها خبرة وممارسة سياسيّة طويلة.

كما أنّ ابن خلدون ربط نظريّته الضّريبيّة بفكرة الأجيال الثّلاثة لظهور الدّول واضمحلالها. فالعلاقة بين زيادة المعدّلات الضّريبيّة، وبين التّحصيل الضّريبي، تكون في بداية الدّولة (مرحلة البداوة)علاقة طرديّة ويُفسّر ذلك أنَّ الدّولة في بدايتها تُبنى على أسس الدّين فلا تطلب إلاّ المغارم الشّرعية من زكاة وصدقات وعُشور وخراج وجزية،وهي قليلة…واذا قلّت الضّرائب على النّاس شجّعهم ذلك على العمل ورغّبهم فيه فيكثر الاستثماروتتزايد المحاصيل.

وأمّا في آخر الدّولة (مرحلة الاضمحلال) فإنَّ العلاقة تصيرعكسيّة، عندما يزداد العبء الضّريبيّ زيادة مفرطة بفعل التحوّل الاجتماعي والاقتصادي الذي تعرفه الدّولة.

لا يزال غطاء الخِوان الّذي رسم عليه آثر لافر منحناه معروضًا في المتحف الوطني للتّاريخ الأمريكي، ولا يزال يزال منحنى لافر يُدرّس في أغلب جامعات العالم. أمّا كتاب المقدّمة لابن خلدون فإنّه لا يزال ينتظر من يبحث فيه عن حلول لمشاكلنا الحضاريّة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
4
  • كلمة حق

    إلى صاحبي التعليقين الأول والثاني تقولان أن العرب ليسوا حملة علم ولا يعرفون إلا التخريب والهمجية، لعلكما نسيتما ان ابن خلدون الذي هو موضوع المقال، عربي ابن عربي، وحكمكا على العرب بحب الجهل ونبذ العلم فيه اجحاف بحق جميع العلماء العرب بدء بعلماء الدين وصولا الى مالك بن نبي ولعل الحقيقة ان التخلف والهمجية هي من شيمكما انتما ايها الجاحدان المتخلفان

  • دونا

    لن خلدون مسلم من شمال افريقيا -تونسي الاصل - ابو علم الاجتماع والاقتصاد والتاريخ لا شك في ذلك
    كل علماء العصر الحديث سواء من الشرق او الغرب استمدوا معارفهم وعلومهم من كتبه ومنهجه العلمي الرائع والفريد.

  • TAFOUGT

    ابن خلدون حقا عملاق : أينما حل العرب حل الخراب. وهو كلام صالح لكل زمان ومكان والدليل أنه صالح بعد 7 قرون تقريبا من يوم قال العملاق مقولته

  • من بلادي

    يقول ابن خلدون : العرب إذا تغلّبوا على أوطان أسرع إليها الخراب والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية.. وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له ... العرب ابعد الناس عن الصنائع والسبب في ذلك أنهم اعرق في البداوة وابعد عن العمران الحضري ... حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم .. العرب لا يتغلبون إلا على البسائط .... الخ