-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

اجعل الشّيطان يندم

سلطان بركاني
  • 4183
  • 0
اجعل الشّيطان يندم
ح.م

من حين إلى آخر نعود ليذكر بعضنا بعضا بالمعركة الصّعبة التي يخوضها كلّ واحد منّا ضدّ الشّيطان، والتي تبدأ معه من لحظة خروجه إلى الدّنيا ولا تضع أوزارها حتى يسلم العبد الرّوح إلى بارئها؛ معركة يسعى الشّيطان خلالها لأن يضلّ العبد ويجعله من جنده وأتباعه، ويقوده معه إلى نار جهنّم، ولعلّ ممّا يزيد المعركة صعوبة أنّ وسائل الإفساد والإغواء في زماننا هذا قد كثرت وتنوّعت، وأصبح الشّيطان يجد له أعوانا كثرا من بني آدم، من شياطين الإنس الذين يفوقون في بعض الأحيان في خبثهم ومكرهم خبث شياطين الجنّ ومكرهم.

أصبح العبد المؤمن الذي يختار طريق الصّلاح والاستقامة لا يكاد يجد له أعوانا إلا قلة من النّاس، ولا يكاد يجد في بيته ومكان عمله ومحيطه ما يعينه على طاعة الله، بينما يجد من اختار طريق الغواية والشّهوات ما يعينه على غوايته، ويجد أعوانا كثرا يشجّعونه ويحمدون صنيعه ويوافقونه، ولعلّنا لا نستبعد أن يكون زماننا هذا هو الزّمان الذي أخبر عنه النبيّ –صلّى الله عليه وآله وسلّم- حينما قال: “وددت لو رأيت إخواننا”، قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: “بل أنتم أصحابي، وإخواني قوم آمنوا بي ولم يروني، للواحد منهم أجر خمسين”، قالوا: يا رسول الله منا أو منهم؟ قال: “بل منكم، إنكم تجدون على الحق أعواناً ولا يجدون على الحق أعوانا”.

كثير هم الشّباب الذين يشْكون صعوبة الواقع، ويشكون ضعفهم أمام الشّهوات.. شباب يحملون في دواخلهم خيرا كثيرا، الواحد منهم يكاد يبكي لأنّه سئم من عودته في كلّ مرّة إلى المعاصي والذّنوب. يقول قائلهم: أقع في المعصية، فأتوب وأندم، وأنوي ألا أعود إليها مرّة أخرى، لكنّي أضعف، وأعود إلى فعلها مرّة ثانية، فأتوب وأندم مرّة ثانية، لكنّي أعود إلى فعلها مرّة ثالثة، وتتكرّر القصّة مرّات ومرّات.. وشيئا فشيئا أشعر بأنّ توبتي لا فائدة منها، وأشكّ في توبتي بأنّها كاذبة، لأنّي أقترف المعصية نفسها في كلّ مرّة، بل أتّهم نفسي بالنّفاق وتضعف همّتي في الطّاعات، ورويدا رويدا حتى أترك قراءة القرآن وأضيّع الصّلوات!

الشّباب عامّة، مهما كان صدودهم عن طريق الاستقامة وإيغالهم في طريق الغواية، هم في أمسّ الحاجة إلى من يستمع إلى معاناتهم مع واقعهم ومع أنفسهم، وهذا الصّنف من الشّباب خاصّة، أكثر حاجة إلى من يحنو عليهم ويأخذ بأيديهم ويكون عونا لهم على أنفسهم وعلى الشّيطان، حتى لا ينتقلوا من كراهة المعصية والخوف منها إلى إلفها واعتيادها وربّما إدمانها.

هذه توبة صادقة وليست كاذبة

أخي الشّابّ.. يا من أرهقتك المعصية، وفي كلّ مرّة تذرف دموع قلبك وتتمنّى أن تتحرّر منها وتنفكّ من أسرها؛ تندم وتعقد العزم على أنّك لن تعود إليها، ولكنّ نفسك تضعف بسبب أنّك لم تتخلّص من أسباب المعصية ودواعيها وبواعثها في نفسك وفي محيطك، فتعود إليها بضعف نفس، وترتكبها وأنت كاره لها.. ألا فلتعلم أخي الشابّ أنّك ما دمتَ تتوب وتندم وتعقد العزم بصدق في كلّ مرّة على ألا تعود وتتمنّى ذلك، فأنت لا تزال بخير ولا تزال جذوة الإيمان متّقدة في داخلك.. أنت في جهاد ومأجور -بإذن الله- على جهادك وعلى توبتك وندمك.. توبتك ليست كاذبة.. التوبة إذا اقترنت مع النّدم، ومع العزم الصّادق على عدم العودة إلى المعصية، هذه توبة صادقة بإذن الله.. وهي فوق هذا توبة نافعة، لأنّها تمحو الذّنب وتنظّف القلب، ذلك أنّك إذا وقعت في المعصية، فإنّها تحتسب عليك، فإذا تبت منها بصدق وعزم محيت ومحي أثرها من قلبك، فإذا عدت إليها كتبت مرة أخرى، فإذا تبت محيت، وهكذا، تكتب وتمحى، ويظلّ قلبك نقيا.. هذا خير لك من أن تترك التّوبة، وتكتب عليك السيئة في كلّ مرّة، حتى تتراكم عليك السيّئات والنّكت السّوداء على قلبك ويعلوه الرّان، وهذا ما يتمنّاه لك الشّيطان؛ يريد لك أن تيأس وتملّ وتترك التّوبة وتتّهم نفسك بالنّفاق.. حتى تتراكم الذّنوب على قلبك ويصبح القلب أسودَ منكوسا يحبّ المعاصي ويألفها ويدمنها.. في الحديث أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: “إنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاء، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُه، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَه، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ ((كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُون))”.

هذا إيمان وليس نفاقا

إنّها مصيدة شيطانية وقع فيها كثير من الشّباب الذين قلّت معرفتهم بالله وبأسمائه وصفاته؛ تجد الواحد منهم يقع في الذنب، فيتألم قلبه ويبكي، وربّما تبكي عيناه.. ثمّ بعد ذلك إذا أراد أن يصلّي أو يتصدّق، أتاه الشّيطان فقال له: يا هذا! أنت قبل قليل كنت تنظر إلى تلك الصّورة المحرّمة أو إلى ذلك المقطع المحرّم، أو تفعل وتفعل، والآن تريد أن تصلّي؟! تريد أن تقرأ القرآن؟! تريد أن تنشر موعظة أو كلمة طيّبة على صفحتك؟! تريد أن تنصح غيرك؟! ما هذا النفاق؟!

ألا فلْتعلم أخي الشابّ أنّه لا علاقة للنّفاق بهذا السلوك أبدا.. المنافق هو الذي يقع في الذّنب راغبا ولا يتوب، ثمّ يتظاهر بالصّلاح أمام النّاس ليكسب ودّهم وثناءهم وليس ليرضي ربّه، أمّا المسلم الذي يقع في الذّنب وهو كاره له، ويتوب منه بصدق ويعقد العزم على عدم العودة إليه ويقطع أسبابه ودواعيه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فإنّه مؤمن وليس منافقا، مهما تكرّر منه الذّنب وتكرّرت منه التّوبة. روى الإمام أحمد عن أبي سعيد -رضي الله عنه-أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: “قال إبليس: يا ربّ، وعزّتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله تعالى: وعزّتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني”، وروى أبو داود والترمذي أنّ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: “ما أصرّ من استغفر، ولو عاد في اليوم سبعين مرة” (رواه أبو داود والترمذي والبزار)، وحينما أتاه رجل فقال: يا رسول الله، أحدنا يذنب؟ قال عليه الصّلاة والسّلام: “يكتب عليه” قال: ثم يستغفر منه ويتوب؟ قال: “يغفر له ويتاب عليه ولا يمل الله حتى تملوا” (أخرجه الطبراني). أي لا يملّ الله من العفو والمغفرة حتى تملّوا أنتم من التّوبة والأوبة.. قيل للحسن البصري رحمه الله: ألا يستحي أحدنا من ربه، يستغفر من ذنوبه ثم يعود، ثم يستغفر ثم يعود؟! فقال: “ودَّ الشيطان لو ظفر منكم بهذا -أي: باليأس من التوبة والكف عنها-، فلا تملوا من الاستغفار”.

عالج إدمان الذّنب بإدمان التّوبة

أخي المؤمن.. ربّما تستغرب هذا العنوان، لكن كن على يقين بأنّه علاج ناجع وفعّال بإذن الله.. عالج إدمان الذّنب بإدمان التوبة؛ كن مدمنا للتّوبة، وأرغم الشّيطان بتوبتك وحسرتك في كلّ مرّة، ولا تصغِ لوساوسه، وتذكّر قول ربّك سبحانه: ((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ* أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين)).

لا تترك للشّيطان سبيلا لأن يقنّطك من رحمة ربّك، ويسلبك ثقتك بالله أولا، ثمّ ثقتك بنفسك، ويوسوس لك بأنّك لا تستطيع أن تقلع عن المعصية.. الشّيطان ديدنه أنّه يثبّط العزائم ويضع العقبات على طريق التّوبة والصّلاح، فيصوّر للعبد المذنب أنّ نفسه ضعيفة وأنّ إقلاعه عن الذّنب مستحيل، وينصحه بترك المحاولة والاستسلام.. والعبد المؤمن ينبغي ألا يسمع نزغات الشّيطان، وألا يتوقّف عن المحاولة ما دامت الرّوح تسري في جسده، ومن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له.

أتبع السيّئة الحسنة تمحها

أخي المؤمن.. كلّما وقعت في معصية، فلا تسمع لنزغات الشّيطان الذي يقول لك: ما دمت قد وقعت في هذه المعصية فلا داعي لأن تعمل الصّالحات! خالف الشّيطان، وكلّما وقعت في معصية بضعف نفس، اجتهد في أن تتبعها بحسنة من الحسنات في أقرب فرصة، ولا تبطئ حتى لا ينسيك الشّيطان.. يقول مولاك الحنّان الرّحيم: ((وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِين)).. ويقول حبيبك المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: “وأتبع السيئة الحسنة تمحها”، ويقول عليه الصّلاة والسّلام: “إِنَّ مَثَلَ الَّذِي يَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ يَعْمَلُ الْحَسَنَات، كمثل رجل كَانَتْ عَلَيْهِ دِرْعٌ ضَيِّقَةٌ قَدْ خَنَقَتْهُ، ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ، ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً أُخْرَى فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ أُخْرَى حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الأَرْض”.. اجتهد وجاهد نفسك على ترك المعصية، فإن غلبتك نفسك مرّة ومرّات، فلا تيأس، وأبتعها في كلّ مرّة بحسنات ماحية، بل إن استطعت أن تغرق تلك السيّئة في بحار من الحسنات فافعل.. حاول أن تجعلها معصيتك الوحيدة وأحطها بالحسنات من كلّ جهة.

 أشعل الجبهات على النّفس والشّيطان واجعلهما يندمان

اتّخذ قرارك بأن تُرغم الشّيطان الذي أغراك بالمعصية وترغم النّفس التي تشبّثت بها، أشعل الجبهات عليهما؛ فإن هما غلباك في النّظر إلى الحرام، فاغلبهما بالنّظر في القرآن.. اغلبهما ببرّ والديك.. اغلبهم ابالصّدقات وخاصّة صدقة السرّ وأنت تستحضر أنّ “الصّدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النّار”.. اغلبهم ابكثرة الاستغفار والإلحاح في الدّعاء.. قيل للحسن البصريّ رحمه الله: “رجل لا يتحاشى عن معصية إلاّ أنّلسانه لا يفتر من ذكر الله؟ فأطْرق مليّا، ثمّ قال: “إنّ ذلك لعون حسن” (التوبة لابن أبي الدنيا).. لم يقلّل من جرم معصية ذلك الرجل، لكنّه أيضا لم يقلل من شأن الذكر كعون له في معركتهمع النّفس والشيطان.

وهكذا بإدمان التّوبة وتكرارها، وبالإكثار من الحسنات الماحية، ستضطرّ الشّيطان لأن يندم على أنّه سوّل لك تلك المعصية وزيّنها في نظرك.. روى أبو نعيم في حلية الأولياء بسنده إلى عكرمة أنّه قال: “إن الشّيطان ليزيّن للعبد الذنبَ حتى يكسبه، فإذا كسبه تبرّأ منه، ولا يزال العبد يبكي منه ويتضرع إلى ربه ويستكين حتى يغفر له ذلك الذنب وما قبله، فيندم الشيطان على ذلك الذنب حين أكسبه إياه فغفر له الذنب وما قبله”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!