-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

استمارة المغضوب عليهم

استمارة المغضوب عليهم
أرشيف

إن أصعب خطوة يخطوها الباحث في مجال الدراسات الاجتماعية والإنسانية والنفسية والإعلامية والتربوية.. الميدانية تكمن في تجاوز مرحلتين أساسيتين، هما: اختيار وانتقاء العيّنات المدروسة، التي ستشكل له بواباتِ ومفاتيحَ وقواعدَ قراءاته النظرية التي يريد البرهنة عليها، والتي منها وبها وعبرها يمكنه استخلاص القوانين والقواعد المضطردة كنتائج منضبطة لدراسته. والخطوة الثانية تكمن في اختيار وإعداد الاستمارة (الاستبيان) التي سيوزعها على تلك العينات المختارة أو العشوائية أو الطبقية أو العنقودية أو.. أو.. بعناية وانتظام وانضباط، كي يتمكن من استرجاعها كلها، ومن ثَمَّ يُحصّل على نتائج استبيانه ويحسب نسبه المئوية.

 القليل من الباحثين المتمرسين من يستطيع الخروج بنتائج صحيحة ودقيقة من دراسته الميدانية للجمهور المدروس، لأن غالبية الجمهور المدروس لا يَصْدُق مع تلك الخانات المطلوب منه ملأها بصدق وحيادية وواقعية، فيكذب ويتلوى ويخالف الحقيقة.. ونحوها من أساليب الاستدارة والتحايل على الحقيقة العلمية، ومن ثَمّ كانت نتائج كل دراساتنا وأبحاثنا العلمية الأكاديمية أو البحثية خاطئة أو غير مجدية أيضا.

يصدق هذا الأمر العلمي على عيِّنة من الجمهور المدروس الذي قد تبلغ الألف أو الألفين أو حتى العشرة آلاف، أما إن تعدى عدد الجمهور إلى بضعة مئات من آلاف أو الملايين، فإن المسألة تبدو صعبة للغاية، وربما مستحيلة، أو شبه مستحيلة. هذا هو ما تقرره بحوث دراسات الجمهور التي تُعدُّ اليوم بالآلاف بمختلف اللغات..

ولكن المسألة المدروسة اليوم والمشار إليها في مقالنا السريع والمختصر هذا مختلفةٌ جدا، فهي من حيث الدراسة وطرق القياس تشبهها إلى حدٍّ كبير، ولكن من حيث أركانها وطرفيها النظري والتطبيقي مختلفة جدا.. ولكن نتائجها صحيحة ودقيقة ومنضبطة، والقوانين والقواعد المستنبَطة منها صحيحة وعامة وشاملة، ولا يعتريها نقدٌ أو طعن أو تكذيب.. ولو أننا أردنا أن نجريها بوسائل البحث العلمي الميداني التجريبي (الإمبريقي) لما استطعنا إلى ذلك سبيلا، ولكن الله دفعنا إلى إجرائها طواعية، وخرجنا بنتائجها الدقيقة والمنضبطة والصحيحة. وإليكم هذه الدراسة التي تحمل عنوان (استمارة المغضوب عليهم). فمن هم المغضوب عليهم؟ ومن أجرى هذا الاستفتاء العلمي؟ وكيف أُجرِي هذا الاستفتاء؟ وكم عدد الذين تعرّضوا لأدبيات القياس؟ وما هي النتائج حتى حكمنا عليهم بأنهم من المغضوب عليهم؟ وإليكم بيان ذلك:

ألم يُصلِّ الملايين من الجزائريين على امتداد هذا القطر الكبير والواسع والممتد الذي يضم أكثر من عشرين ألف مسجد صلاة الاستسقاء مرتين خلال شهري جمادى الأولى والآخرة؟ طبعا ستكون الإجابة التلقائية بعبارة (بلى).

ألم يتضرَّع هؤلاء الملايين من خيرة الجزائريين من العباد والمصلين لله كي يُنزل السماءَ علينا مدرارا؟ طبعا الإجابة ستكون بـ(بلى).

ألم يخطب فيهم خيرةُ الخطباء البلغاء المفوهين لينفثوا الروح والحياة في أولئك الأخيار من صفوة الأمة الجزائرية حتى البكاء والنحيب وابتلال اللحى واحمرار العيون؟ طبعا ستكون الإجابة التلقائية بعبارة (بلى).

ولكن هنا، وبعد كل هذه التساؤلات التي عدلنا عن طرح الكثير منها: هل يمكننا أن نتوقف بصدق وورع وصراحة وشجاعة وإيمان.. مع ذواتنا وأرواحنا ودواخل قلوبنا، ونصارح أنفسنا ولو للحظة واحدة ونقول: أين هي الأمطار التي كنا ننتظرها مباشرة أن تتهاطل مدرارا من عند الله بعد تلك الصلوات؟ وأين هي استجابة الدعوات والتضرُّعات الخاشعة التي تظاهرنا بها أمام بعضنا بعض؟ وأين هي مكانة أولئك المصلين عند الله؟ طبعا ستكون الإجابة محيِّرة ومربكة ومقلقة، بل مؤلمة للغاية.. خاصة إن علمنا أن الله قد كشف حقيقتنا البشعة أمام بعضنا، ورفع الغطاء الذي كان يسترنا ويداري سوآتنا وبشاعتنا، وأنه سبحانه وتعالى قد أعطانا نتائج الاستبيان الذي رغبنا أن نقوم به بأنفسنا وعلى أنفسنا الأمَّارة بالسوء.

ألم نُجرِ استبيان اختبار صلاح واستقامة نيّاتٍ ومعتقدات؟ ألم نُجرِ اختبار صدق إيمان؟ ألم نُجر اختبار كشف مقامات ومنازل ومعارج الأخيار؟ ألم نُجر اختبار مكانات عند الله؟ ألم نُجر اختبار كرامة ومكانة عند الله بهذه العبادة التي تسمى صلاة الاستسقاء؟ ألم؟ ألم؟

والجميع يعرف مسبقا النتيجة المخيبة لآمال الملايين من المصلين وغير المصلين التي تلت تلك الصلواتِ الخاصات بالاستسقاء، وكيف أمسكت السماء عنا المطر؟ وكيف امتنعت حتى الغيوم عن تعكير صفو السماء في هذا الفصل الشتوي القارس؟ وكيف حرمنا الله مزية الاستجابة؟ وهو القائل: (ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) (غافر: 60) (عبادتي: دعائي. داخرين: ذالين، خاضعين). وهو القائل والمخاطِب لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم أنا: السريع الدعاء والاستجابة: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أُجيب دعوة الداعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) (البقرة: 168)..

أتعلمون لماذا يا معشر الجزائريين -مصلين أو غير مصلين- لم يستجب لنا الله؟ ولم يقبل دعاءنا وصلاتنا وتضرُّعنا؟ وقبل أن أُجيبكم، والجواب حاضرٌ من صيدلية الإسلام، أسألكم: هلا سألتم أو تساءلتم بينكم وبين ذواتكم لماذا لم يستجب لنا الله؟ وهل تساءلتم عن الأسباب الحقيقية والنفسية والقيمية والأخلاقية والسلوكية التي بها يُستجاب الدعاءُ أو يُرفض؟ أعتقد أن الجواب الفيصل هنا لا يحتاج إلى كبير اجتهاد أو كثير تفكير أو تخمين.. بل إنه كامن –ببساطة- في استمرار انقطاع المطر عنا.

يجب علينا أن نعترف بأننا عصينا الله عصيانا جماعيا، ونحتاج إلى أن نتوب توبة جماعية، وأن نستغفر جميعا استغفارا جماعيا، وهو القائل الموجِّه لنا بقوله: (.. وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) (النور: 31). ألم يخبرنا عن طريق سيدنا نوح أن المطر طريقها الاستغفار: (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا* ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا* ما لكم لا ترجون لله وقارا*..) (نوح: 10..13).

إذن لماذا استمر انقطاع المطر بالرغم من هذه الجهود التعبُّدية التي بذلناها؟ ولماذا لم تشفع لنا صلواتُنا وتضرُّعاتنا وخطب أئمتنا لاستجلاب المطر؟ الحقيقة أن الجواب واضح، ولا يحتاج إلى شرح، وإليكموه يا معشر الجزائريين عموما، ويا معشر المصلين والمسجديين خصوصا بصدق ومباشرة..

تعالوا نسأل أنفسنا وإياكم: أين نحن من تطبيق أركان وتعاليم الإسلام في واقع نفوسنا وحياتنا الاجتماعية والاقتصادية والمهنية..؟ وأين هي الصلاة التي نصليها كل يوم في المساجد جماعة ونتسابق إلى الصفوف الأولى والتي هي في أساسها جُعلت لتنهى عن الفحشاء والمنكر؟ فأين هو المنكر والفحشاء التي نحاربها في حياتنا اليومية على مختلف الأصعدة والميادين؟ وأين هي الزكاة التي يجب أن نُخرجها طواعية وحبا لله ولتعاليمه ونعطيها للأصناف الثمانية؟ (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم) (التوبة: 60). ألسنا نتهرّب منها بالاحتيال والخداع لله، فنبني العمارات ونشتري الشقق ونختزن فيها أموالنا حتى لا نزكيها عملا بالفتوى القديمة جدا أن العقار لا زكاة فيه، وهي الفتوى التي صارت مهرب كل محتال ومخادع (يخادعون الله ورسوله وما يخدعون إلاّ أنفسهم وما يشعرون) (البقرة: 9).

وأين هي الصدقات الواجب إخراجُها وإعطاؤها لأصحابها ومستحقيها؟ (خذ من أموالهم صدقة تطهِّرهم وتزكيهم بها وصلِّ عليهم إن صلواتك سكنٌ لهم) (التوبة: 103).

وأين هي الكفارات والنذور الواجب إخراجُها على سبيل الفور والتعجيل؟ وأين هي القربات وأعمال الخير؟ وأين هي حقوق الآخرين عندنا؟ وأين حقوق الجار وابن السبيل والصاحب بالجنب وأصحاب الحقوق علينا؟ وأين حقوق العمل والوظيفة التي نرتزق منها؟ وأين حقوق الوطن الواجب تأديتها؟ وأين هي حقوق البيئة التي ملأنا قذارة ونفايات؟ وأين هي قيم الإسلام المنسية؟ أين هي قيم التحية والسلام وفعل الخيرات وإسداء المعروف والوفاء والصدق والأمانة الضائعة؟ وأين هي الفروض والواجبات؟ وأين هي سورة النساء وتوزيع الإرث؟ وأين هي سننُ وحقوق وواجبات احترام الطريق وقوانين العمل وطرق الكسب وتحصيل اللقمة الحلال من حياتنا؟ أين نحن من كل هذه الفروض والواجبات والسنن والنوافل والمستحبات؟ أين نحن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على يد الظالم والمستبدّ؟ أين نحن من الذكر والشكر والكد والجد والتطوع؟ أين نحن من حقوق الوالدين والإخوة والأخوات والخالات والعمات والأقارب؟ وأين نحن من حقوق الزوجات والأبناء والبنات؟ وأين نحن من حقوق الناس التي نأكلها دون خوف أو ورع؟ أين نحن من كل هذا وذاك؟ وكفانا تعدادا..

إننا أجرينا استبيانا مع الله وكشف لنا حقيقتنا، فهل يمكننا أن نُصلح أنفسنا ونتوب ويصير دعاؤُنا مستجابا؟ يمكننا ذلك إذا علمنا أن الصحابي الجليل (سعد بن أبي وقاص ت 56هـ) رضي الله عنه وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوما: يا رسول اُدعُ الله لي أن أكون مستجاب الدعوة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَطِب مطعمك يا سعد تكن مجاب الدعوة)، أي: كل الحلال والطيب تكن مجاب الدعوة، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ((إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا فإني بما تعملون عليم) (المؤمنون: 51)، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدُّ يديه إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام مشربه حرام وملبسه حرام وغُذّي بالحرام، وراحلته من حرام، فأنى يُستجاب له) (رواه مسلم تحت رقم 1015).

ولعلنا نختم هذا الكشف الروحي الصادق بهذا الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يتضمن الجواب والاستبيان الكافي، فقد جاء عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: أقبل علينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم يُنقِصوا المكيال والميزان إلا أُخِذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيَّروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم))) رواه ابن ماجه في سننه). فهل هذه الخمس فينا أم لا؟ أللهم اشهد أني بلغت.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!