-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الإصلاح.. ونظرية المؤامرة

الإصلاح.. ونظرية المؤامرة
ح.م

لطالما أثار موضوع “نظرية المؤامرة” الجدل والنقاش وحتى الصراع في عديد الملفات والقضايا التي تواجه الدول والحضارات والمجتمعات كمحاولة لتبرير الأحداث وشرحها ووصفها وتحديد خلفياتها، كما أنها كذلك المحدد الأكثر ظهورا عند كل محاولة لفهم النزاعات أو الصراعات أو الحروب سواء على مستوى الأفراد أو التنظيمات أو المؤسسات أو المجتمعات أو الدول من خلال حركة الحياة اليومية ودورة الحضارات المتعاقبة التي يحكمها في الغالب قانون السببية ومنطق دوران التاريخ الذي تختفي بموجبه دول وثقافات وتتجدد أخرى في دورة حياة مستمرة ومتعاقبة في ظل تنافس محموم بين الأديان والايديوجيات والتوجهات على سيادة العالم والتحكم في قراراته المصيرية وقضاياه الجوهرية.

يجب التأكيد هنا أيضا بأن “نظرية المؤامرة” قد اختُلِف على تعريفها ووصفها وتحديد قوة تأثيرها وتوجيهها للأحداث وتفسيرها لمعرفة هل فعلا هي قدَرٌ مسلم به؟ أم أن الأمر مبالغٌ فيه ويحتاج إلى تدقيق وتصويب كي لا تكون شماعة نعلق عليها كل إخفاقاتنا وانهزاماتنا وأيضا متغيرات الواقع من حولنا؟ ويمكن حصر الاتجاهات الفكرية أو السياسية في النظر إلى نظرية المؤامرة ومنسوبها في الأحداث في الاتجاهات الثلاثة التالية:

الاتجاه الأول:

وهو تيارٌ فكري وسياسي وإيديولوجي مؤيد لنظرية المؤامرة وهذه حججه:
– تثبيت حالة الصراع بين الحضارات والأمم والأفراد والشعوب والمجتمعات، فحسب هؤلاء أن الصراع هو الأصل في العلاقات الإنسانية ولا توجد حضارة تصالحت مع حضارة أخرى إلا بمنطق الحرب ومحاولة إقصاء كل منهما الأخرى للحلول محلها، فمنذ أن خلق الله آدم عليه السلام اندلع الصراع بينه وبين إبليس كما خلَّد ذلك القرآن الكريم، وصراع ابنَي سيدنا آدم قابيل وهابيل، لتتوالى الصراعات منذ الإنسان الأول إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالأصل هو الصراع، أما السلم والهدوء فهي حالات استثنائية لتجدد الصراع وهدنة بين المتصارعين لاستمراره بشكل أقوى وأشرس.

– حسب هذا التيار بالمؤامرة نفهم الصراعات، وبالمؤامرة نصوب المسارات، وبالمؤامرة نجدد الخطط والبرامج، وبالمؤامرة نعدل التكتيكات، ولا تأتي دائما هذه الأخيرة من أنفسنا وبمبادرة منا، فولا الصراع والمؤامرات التي يحيكها الخصم لما تنبهنا إلى التجديد وتطوير وسائل المقاومة والوجود وفرض الذات، لا يمكن تجاوز الفكر التآمري أثناء تثبيت المشاريع ووضع الخطط ولا لاحقا بالتصويبات والمراجعات كما سبق الذكر والتأكيد، فالمؤامرة هي الوسيلة النفسية والفكرية والواقعية التي تديم الوجود وتجمع وسائل القوة للاستمرار أو وسائل الاستدراك للنهوض مجددا بقوة أكبر وعزيمة أعظم وبرؤى خضعت بكل موضوعية للتحديث والتصحيح معا.

– منطق المؤامرة يسهل على حمَلة المشاريع الإصلاحية التعرّف على الخصوم ومعرفة أسلحتهم وخططهم وتكتيكاتهم، وبالتالي استحضار التآمر في معرفة الوقائع والأحداث يسهِّل معرفة الخصوم كذلك، وعندما تعرف الخصوم تسهُل بذلك عملية التموقع والمحاصرة والانتباه على الأقل للحلبة وما يدور فيها، فقد ذكر التاريخ أنَّ الكثير من التجارب الإصلاحية لم تنجح، ليس لأنها غير صحيحة أو غير صائبة أو لأن حمَلتها ضعفاء أو جبناء أو قليلو خبرة أو تجربة، ولكن لأنهم أخفقوا في معرفة الخصم الحقيقي والخفيّ وليس الظاهر فقط.

– لماذا نُبالغ في جلد الذات ونتغاضى عن المتآمرين الذين هم سببُ كل المصائب والمشكلات؟ يضيف هؤلاء في سرد حججهم في التشديد على نظرية المؤامرة وخلفياتها الرئيسية في توجيه الأحداث أسبابا ونتائج، صحيح قد يكون الإنسان مسئولا مسؤولية تزيد أو تنقص، لكن وجودك في مخطط الآخرين أيضا لا يقلُّ أهمية وخطورة وحساسية في أنَّ الصراع والتآمر هو السببُ الحقيقي خلف كل الأحداث التي وقعت وتقع وستقع كذلك.

– لماذا النظر إلى المؤامرة على أنها أمرٌ سلبي وجب تفاديه أو أمرٌ مشين في تفسير الأحداث يجب أن نتفاداه أو نسلط عليه الضوء، فللمؤامرة أوجهٌ إيجابية كثيرة، فهي التي تجعلنا أقوى وأكثر صمودا وقدرة على البقاء والمدد والتصحيح والتصويب والنصر والتمكين للمشاريع الإصلاحية بمختلف مجالاتها السياسية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والعسكرية…

– منطق المؤامرة حتى وإن لم يتم اختيارُه أو وضعه في حسبان التقييم وتفسير الأحداث سيفرضه الآخرون أو يفرضه منطق الصراع، وبالتالي -حسب هؤلاء- يجب أن لا نتموقع أو نظهر بثوب السذّج الذين لم يستوعبوا الصراع ولا فهموا أعماقه ومسبباته، متحججين بمنطق الصراع الذي لا يخلو أبدا، وفي كل القضايا حديثا وحاضرا ومستقبلا، فالحروب إن لم تخترها فستفرض عليك، والتدافع إن لم تختره فهو مفروضٌ عليك، والصراع على المواقع والمصالح كذلك إن لم تختره فسيفرض عليك، وعليه يجب أن لا نصاب بعقدة الدونية ولا عقدة جلد الذات، فالمؤامرة كائنة وستبقى المحرك الأساسي لكل الأحداث الظاهرة والباطنة معا.

الاتجاه الثاني:

وهو كذلك اتجاهٌ فكري وسياسي بخلفيات تنفي نظرية المؤامرة، وهذه حججه:

– نفي المؤامرة لا يعني -حسب هذا التيار- أنها غير موجودة، لكن يتشددون في إقصائها من التفسير الجاهز والشماعة الحاضرة دوما في تفسيرنا للأحداث وتبريرنا للإخفاقات، وهو فرق مهمّ حسبهم في التعامل مع الفكر التآمري والسلوكيات التي يحكمها منطق الصراع والتدافع.
– مادام أن الصراع هو الأصل والتدافع هو الفطرة البشرية منذ خلق الله الأرض والبشر والمصالح واندلع النزاع بينهم، فلا داعي لتغليب هذا العنصر في تبرير الأحداث، ووجب ادّخار الجهد والتحليل والتصويب والمراجعات في البحث عن الأسباب الخفية أو التي نحن مسئولون عنها، وليس الاختباء والتمسك بنظرية المؤامرة الجاهزة والموجودة أصلا ولا تحتاج إلى إثباتات أو أدلة.

– اكتشاف الفكر التآمري في التعامل مع الأحداث ليس عملا بطوليا ولا اجتهادا مهما، لأنه مجرد تأكيد للمؤكد وإثبات للموجود، فلماذا كل هذا الغلو في تعليب الفكر التآمري في كل حادثة أو منعرج أو سقوط أو نهوض؟

– لماذا تقمُّص دور الضحية دائما؟ إنّ التشبُّث بمنطق المؤامرة هو إثباتٌ للعجز والضعف وقلة الحيلة وبأن الآخر استطاع أن يُفشل مشاريعك وخططك ويبعدك بحنكته وذكائه عن المشهد، أنت بهذا المنطق تعلن انتصاره وتفوُّقه وتُثبت حسن وذكاء إدارته للصراع الذي فشلت فيه أنت ونجح فيه هو، والناس تنساق دوما للمنتصِر وليس للمهزوم ولا يهمها أساليب الصراع ووسائله هل كانت مشروعة أو غير ذلك.

– من قال إن منطق المؤامرة قدَرٌ دوما أو غير مشروع دائما؟ لماذا شيْطنة المؤامرة في حين أن الجميع يقوم بها في خططه وأعماله ومشاريعه؟ وقد ذكر لنا التاريخ وخلد الكثير من الصراعات التي كان فيها التآمر متبادلا والصراع محموما، فوضعك للخطة تآمرٌ وتنفيذك لها تآمر وانتصارك تآمر وحشد الناس والأتباع لمشروعك هو تآمر ومحاولاتك لتغيير البيئات من حولك تآمر، فهو سنة الخلاف والاحتراب والصراع والتدافع ومن دون تآمر لن يتحرك حجرٌ على حجر، وما التغيرات الجيوسياسية في العالم منذ بداية التاريخ إلى نهايته إلا نتيجة للفكر التآمري والسلوك الكيدي، فقط تختلف وسائلُه من دين إلى دين ومن إيديولوجية إلى إيديولوجية ومن حضارة إلى حضارة أخرى.

الاتجاه الثالث:

وهو اتجاه وسط بين الاتجاهين سالفي الذكر، يحاول التعامل مع ثقافة المؤامرة بمنطق “لا إفراط ولا تفريط” معتمد على الحجج والأدلة والبراهين الواقعية والعقلانية التي تتعامل مع كل حادثة أو سياق على حدى، فلا يمكن نكران المؤامرة، ولكن في المقابل كذلك لا يمكن أن نحمِّلها كلية مسؤولية الإخفاق أو التقاعس أو تقزيم باقي المسببات الأخرى والتي قد نكون نحن المسئولين عنها أيضا.
أنا شخصيا أدعم التيار الثالث.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!