-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

البكالوريا.. هل من رأي قويم لتطويرأساليب التقويم؟

البكالوريا.. هل من رأي قويم لتطويرأساليب التقويم؟
أرشيف

أسلوب تقويم امتحان البكالوريا بشكله الحالي ومضمونه ومناخه، يدفع بالطلبة والأولياء إلى فقدان الثقة في هذا الامتحان ونزع المصداقية عنه، كما يتحمَّل المقومون/ المصححون، من وجهة نظر الطلبة والأولياء مسؤولية هزالة النقاط وضعفها، وهذا ما يتسبب في توترات بعد إعلان النتائج مباشرة. وآثارها النفسية تكون صعبة أحيانا كثيرة، لأن مثل هذه الصدمات تحتاج إلى وقت طويل لكي يستعيد بعدها الراسبُ توازنه النفسي، ويعود إلى متابعة دروسه، إن أتيحت له فرصة الإعادة.

مشكلة التقويم/ التصحيح مطروحة حتى على الأساتذة الذين يقول بعضهم إن هذه النقاط لا تشكل مقياسا بالنسبة لي، كمدرِّس، إذْ لا يعقل أن أقوم بالتدريس، وغيري يقوم بالتقويم، فالنقاط التي يحصل عليها طلبتي لا تمثل بالنسبة لي أي شيء، نظرا لضيق الغلاف الزمني المخصص لهذه العملية من جهة، وانعدام التكوين لدى الكثير من المصححين من جهة أخرى، لذلك أصبح من الضروري إعادة النظر في عملية التقويم.

لماذا لا يتمّ التفكير في جعل التقويم جزءا من العملية التعليمية وإدماجه في حياة المتعلّم، حتى يصبح عاديا، وتنزع منه كل معاني الخوف، ونخفف من تعبئة وتجنيد مختلف أساليب الغش التي تطورت بتطور تقنيات التصوير والاستنساخ؟

التقويم هو الأساس المركزي للحديث عن وضع تدريس المواد كافة. ولأن التقويم يشهد في وقتنا الحالي مفارقات، سواء على مستوى استراتيجي أو بيداغوجي، لذلك أصبح من الضروري تجاوز الوضع الحالي للتقويم، سواء من الناحية النظرية أم العملية والذي من سمات هذا التقويم التجريبيةُ والغموض والتأويلات المتعددة، وعليه فإن إعادة النظر في هذه المسألة ضرورية، ووضع تصور بيداغوجي يتضمن تحديداً واضحا لمعنى التقويم في أي امتحان، يؤخذ بعين الاعتبار التعرف إلى حاجات المتمدرس، والعمل على جعل عملية التقويم تقترب من الموضوعية أكثر، من شأنها أن تقلص من سلطة ذاتية المقوّم/ المصحح.

تشير التقارير والمقالات المنشورة في الصحف، أن النظام الجديد لامتحان البكالوريا، خصوصاً، قد تجاوز الكثير من السلبيات التي كانت تميّز النظام القديم، واستطاع إيجاد نوع من الفعالية داخل القطاع التربوي من الناحية النظرية والممارسة أيضا، ولكن رغم ذلك، بقيت بعض الجوانب السلبية انعكست على العملية التعليمية مازالت تشكِّل عوائق حالت دون وصول هذه العملية إلى مستوى التنظيم والفعالية المنشودة. صحيحٌ أن هذا النظام الجديد عرف ارتفاعاً في نسبة النجاح، بالنظر إلى نسبة المترشحين، لكن في المقابل جاء بمثبّطات لا تسمح للعملية التعليمية بأن تصل إلى ما نصبو إليه.

وبعبارة أخرى، تغيّر نظام الامتحان ولم تتغير وظيفة الامتحان، ولم يصبح بعدُ، الانتقال من الامتحان بصفته أداة للانتقاء إلى الامتحان بصفته أداة للتقويم التربوي، بل لا فرق بينه وبين اختبار رخصة السياقة!

إن الخوف من كابوس الامتحان والطابع الانتقائي الذي تأخذه عملية التقويم الحالي، يدفع الطالب إلى ممارسة سلوك مرفوض تربويا وأخلاقيا، وأقصد ظاهرة الغش، ومثل هذا الطالب الذي يعمد إلى ممارسة هذا السلوك من أجل النجاح، يكون قد تشبّع بقيم التواكل والغش وأصبح عنده أمرا عاديا أثناء دراسته منذ سنوات، ويغطي سلوكه الاجتماعي، بعد أن غطى سلوكه التربوي، وهو على مقاعد الدراسة.

والطالب الضعيف عادة، ينهار أمام الامتحانات ونتائجها، لأنه غير قادر على المواجهة اجتماعيا، كما كان على مقاعد الدراسة تماما، ويجد المقوم/ المصحح صعوبات في تقويم عمل من هذا النوع، إذا لم يكن هناك دليلٌ قاطع على الغش الواضح كنقله حرفيا من مطبوع مدرسي مثلا، لعدم تفطن الحراس أو لتواطئهم، ويحصل على علامة ممتازة، وقد عشنا مثل هذه الحالات مرارا في مختلف الولايات، وقد يكون سبب الغش كون الطالب مطالبا بالحفظ والتكرار، لا المناقشة، عوضا عن أن يدعم الشك والبحث والتساؤل، إذ قلما يُوضع الممتحَن في موقف تفكير وانتقاد.

هل أسئلة الحفظ والتكرار من شأنها أن تجعل من الممتحَن إنسانا راشدا ومواطنا فاعلا؟

لا أعتقد ذلك.

وهناك مشكل آخر هو التقويم في التربية البيروقراطية المؤطرة لعملية التقويم التي تخلق آثارا بيداغوجية ونفسية سلبية، وتجعل المصحِّح والممتحَن قلقين، لأن هدف المصحح تطبيق التوجيهات والحفاظ على النظام وتحقيق نتائج إيجابية، حتى لو كانت غير سليمة.

التقويم بالنسبة إلى هذا التيار التربوي أداة لدعم قاعدة الخوف والخضوع التي تنبني عليها التربية البيروقراطية ويجعل العلاقة التربوية قائمة على الإكراه.

ينبغي أن نمارس على أنفسنا أمام واقع التقويم الناقص بشكل واضح، وأمام وقائع من مثل نسبة النجاح في امتحان شهادة التعليم المتوسط في هذه السنة، من أن ما يقرب من نصف الممتحَنين رسبوا، وحتى الناجحون مستواهم متواضع جدا، في عالم ما بعد التقنية والروبوت والحداثة، عالمٌ يهيمن عليه الإعلام الآلي، ومن مثل أن مستوى تعليمنا يحتلّ المراتب الأخيرة من حيث الجودة، وبهذه الوقائع نكرّس التخلف وتفريخ الجهلة والتطرّف والشعوذة والانحرافات الاجتماعية.

لا يصعب على المهتم بالتربية والتعليم أن يدرك بشكل جلي، أن للألماني، مثلا، فلسفته التربوية، وهي المثالية والتدقيق والجمال، وللفرنسي فلسفته التربوية وهي العقلانية الديكارتية والوضوح، وللانجليزي فلسفته التربوية وهي التجريبية والاختبارية والعمل، وللأمريكي فلسفته التربوية وهي الإنتاجية والفردانية والمردودية، ولغير هؤلاء فلسفتهم التربوية، وهل هناك من يستطيع أن يحدد لنا فلسفتنا التربوية؟

أعود إلى الموضوع فأقول: إِن مسألة التقويم تحتاج إلى إعادة وضعها في إطار تصور منظومي ليصححها ويجعلها بُعداً من أبعاد النظام التربوي المنشود، لأن مسألة الامتحانات عموما ومسألة القياس والتقويم خصوصاً، ليست مسألة تقنيات محايدة يرجع البتّ فيها لأهل الاختصاص، بقدر ما هي أدواتٌ تعكس تصورا سياسيا معينا. وبحكم هذا التصور فإنها تمكّن من الانتقاء ضمن نظام اجتماعي تراتبي.

إذا كان التقويم هو صناعة المستقبل، فإن هذه الصناعة جزءٌ من صناعة الاستراتيجيات المنهاجية بغاياتها وأهدافها وبرامجها وكتبها المدرسية وأساليب تقويمها، وهذه هي الخطوة الأولى للإصلاح التربوي التي تمكّن من تحقيق الانسجام بين النظام التربوي ومختلف أساليب التقويم التي يُعتبر الامتحان واحدا منها.

أكرر فأقول: أصبح من الضروري إعادة النظر في أساليب التقويم الحالية، لأنها لا تهتم إلا بتقويم التحصيل وتقويم المعارف، دون المهارات والمواقف والاتجاهات والسلوكات.

ولكي يقترب التقويم من الموضوعية أكثر يجب أن يكون صادقا، يستمد صدقه من درجة تلاؤمه مع ما هو مقصود من كفاءات وأهداف، وتتحد أدواته بمقتضى ما درس الطالب فعلا، بناء على تشاور أطراف عديدة وأقصد المفتشين والأساتذة وإشراكهم في كل ما له صلة بالتقويم.

وعلى الرغم من التحسن التنظيمي الذي عرفته امتحانات البكالوريا في السنوات الأخيرة، ومع ذلك فمازالت تعاني من بعض النقائص التي أصبح من اللازم تداركها، ومنها، كما قلت، البحث عن صيغ أخرى لتقويم أكثر نجاعة من الصيغ الحالية التي ترتكز على الكم دون المهارات والمواقف، وتحلّ محلها عقلنة الكيفية التي تنجز بها مثل هذه الامتحانات، وذلك بالتركيز على اختبار مدى تحقق المهارات المستهدَف قياسها، حسب طبيعة كل مادة على حدة، وبكيفية تأخذ بعين الاعتبار ضرورة الابتعاد عما يسقط الطالب في الاجترار والإسقاط أو الاستظهار والنمطية المملة.

ولا يكون ذلك إلا بوضع امتحان يتيح للطالب إمكانية الاشتغال وتوظيف الأنشطة الذهنية والمهارات العقلية المختلفة، مع الحرص على الانسجام بين التعليم والتقويم.

في مجال تقويم إنتاج الممتَحنين، كما هو معلوم، نكون في حاجة إلى حقلين: حقل التقدير وحقل التحديد بواسطة الأرقام. وإذا كان التقويم في مجال السلع يعتبر ميسورا لأنه يتم عن طريق الوحدات النقدية، عادة، لكن في حقل إنتاج تعليمي يمثل له بنظام التنقيط، ومعنى هذا أن هناك مسافة تفصل بين إنتاج الممتحَنين، باعتباره نظاما، وبين نظام التنقيط.

وهنا نتساءل: هل يمكن لنا حل هذه المشكلة بالتمييز بين ما ينبغي أن نقوم بعملية تعود إلى القياس وما ينبغي أن يكون موضوعا للتقدير؟ حتى المختصون في مجال التقويم مختلفون في هذه القضية ومنهم تشومسكي الذي يرى أن التقويم يرتكز على الانجازات أي الإنتاجات، لكن ما يستهدَف من المكتوب أو الشفهي يعود إلى الكفاءة، لكن الإنجاز في نظره لا يرتكز إلاّ على جزء من الكفاءة أو القدرة، وإذا كان المختصون في مسألة التقويم مختلفين، فإن الأساتذة المصححين يختلفون في الإجابات المتوسطة فقط، لأن الإجابات الجيدة تحصل، عادة، على نقاط عالية، والإجابات الضعيفة تحصل على نقاط متدنية، أما الإجابات المتوسطة فهي التي تكون موضوع اختلاف، كما قلت. ومن هنا نعرف أن التقويم يستند إلى كمّ كبير من المتغيرات، كما أن هناك غموضا بين المتغيرات الكمّية والمتغيرات النوعية في المادة الواحدة، ثمّ إن ترجمة إنتاج الممتحَنين إلى أرقام قد تخون تلك الإنتاجات التي تكون مظاهرها خاضعة لمعايير.

إن المبالغة في أهمية الامتحان لقياس نتائج عملية التعلم وثمارها، يجعله، أي الامتحان، يتحول من أداة التقويم إلى كابوس يستبدّ بالجميع ويسيطر على نشاطهم.

وهكذا يفقد الامتحان موقعه الطبيعي ويصبح هدفا في حد ذاته، يجب العمل بمختلف الوسائل من أجل النجاح فيه، ولو بطرق غير أخلاقية، كما قلت آنفا، وما نلاحظه في الأوساط التعليمية كثير، من انتشار ظواهر سلبية تسيء للعمل التربوي، يتقدمها الغش في الامتحانات.

إنها صورة مشوهة عن التقويم/ الامتحان، تخلق آثارا نفسية عميقة على الطلبة، وتخلق لديهم مخاوف ترقى إلى مستوى التخوفات المرضية (الرهاب) قد تصل بالبعض منهم إلى الانهيار العصبي. وهل من رأي قويم لتطوير أساليب التقويم؟

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!