-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

البيتُ الإبراهيمي.. هرطقةٌ فلسفية وسياسية بتوابل دينية

محمد بوالروايح
  • 2042
  • 8
البيتُ الإبراهيمي.. هرطقةٌ فلسفية وسياسية بتوابل دينية
أرشيف

كثُر الحديث في زمن العولمة الدينية عما يسمى “الإبراهيمية” التي تعني أن الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام تنتسب إلى أصل واحد هو التعاليم الإبراهيمية، وهذه الفكرة تحمل مغالطات كثيرة لا يفقهها كثيرٌ من الناس، فحكاية الأصل الواحد باطلة من أساسها لأن اليهودية والمسيحية قد حادتا عن هذا الأصل وتحولتا -بشهادة أهلها- إلى ديانتين وثنيتين، اختلطت فيهما أصولهما التوحيدية بأفكار وثنية.

 إن “الإبراهيمية” مغالطة كبرى تولى كبرَها بعض الباحثين في تاريخ الأديان وتلقفها جمهورٌ عريض من المسلمين وحتى من بعض المتخصصين في الأديان على أنها الحقيقة التاريخية التي غفلوا عنها ردحا طويلا من الزمن إلى أن جلاها العارفون بحقيقة الأديان، وتكفيرا عن هذه الخطيئة التاريخية، تم إنشاء “البيت الإبراهيمي” في أبو ظبي ليكون مكانا يلتقي فيه أتباع اليهودية والمسيحية والإسلام، يتبادلون فيه الآراء، ويتقاسمون الأعباء في الاضطلاع بدور استراتيجي ومحوري للأديان “الإبراهيمية” في معركتها ضد العولمة الثقافية والعلمانية المادية.

أسِّست فكرة البيت الإبراهيمي حديثا على وجه الخصوص على المقاربة الفلسفية لروجي غارودي الذي يعدُّ أهم من كتب عن الإبراهيمية بكونها بوتقة دينية مشترَكة تلتقي فيها اليهودية والمسيحية والإسلام، فالمتأمل في كتابات غارودي يمكنه أن يدرك حقيقة وهي أن الإسلام الذي يدعو إليه غارودي إنما هو الإسلام الذي تندمج فيه العناصر والقيم اليهودية والمسيحية والإسلامية، وقد دافع غارودي عن هذه المفهوم الإبراهيمي للإسلام الذي لا يعني حسبه بالضرورة الدين الخاتم الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

كتب غارودي في كتابه” Mon tour du siècle en solitaire” قائلاً: “دخلتُ الإسلام وبإحدى يديَّ الإنجيل، وباليد الأخرى كتاب رأس المال لماركس، ولست مستعدا للتخلي عن أي منهما”. ويؤكد غارودي تمسكه بالعقيدة الإبراهيمية كما يراها حتى بعد اعتناقه الإسلام، فيقول: “اخترتُ المسيحية دينا، ثم انتسبت إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، وقادتني حكمة الحكماء وفي مقدمتهم كيركغارد إلى العقيدة الإبراهيمية… ورغم حيرتي وقلقي فقد حافظت على هذه الازدواجية طيلة خمسة وثلاثين عاماً، ولست نادماً على ذلك”. ويؤكد غارودي بأن اعتناقه للإسلام لا يعني تخليه عن أفكاره السابقة بما فيها الأفكار الماركسية التي ميزت فكره في مراحله الأولى، يقول: “إن إيماني بالإسلام هو انجازٌ وليس انشقاقاً، في الوقت الذي لا أنكر فيه المسيح، ولا ماركس، ولا قضية حياتي المركزية، وأنا سعيد الآن، وأنا في السبعين من عمري لأنني بقيت مخلصاً لأفكاري”. في فلسفة غارودي أمرٌ لافت للنظر وهو دعوته الصريحة إلى إقامة ما سماه “الفدرالية الإبراهيمية” التي يعدُّ أول من وضع معالمها، إذ يقول: “إن الفكرة الأولى لعلاقات المسلمين مع بقيَّة الطوائف الدينية في فكر ورأي النبي كانت إقامة ما نسميه اليوم “وحدة فيدرالية للطوائف الدينية”، لكن حصل أن هذا الأمر لم يتحقق أبدا في التاريخ، لا في المسيحية، ولا في اليهودية ولا في الإسلام، لكني أعتقد أن هذه المعادلة قابلة للتعايش والاستمرار، أي أن تصل بنا إلى روابط الجماعة”.

 هذه بعض الحقائق عن الإبراهيمية التي دعا إليها غارودي والتي جلبت له انتقاداتٍ كثيرة وخاصة من التيار السلفي الذي لم يتوان في تصنيف فلسفة غارودي ضمن الفلسفات الصوفية الباطنية الرافضية المخالِفة لشريعة الإسلام نصا وروحا، وفي هذا الإطار يذهب “عبد الحق التركماني” في مقال له بعنوان: “حقيقة روجي غارودي” في “الراصد”، وهي سلسلة إلكترونية متخصصة بشؤون الفرق من منظور أهل السنة إلى وصفه بـ”الدعيِّ” الذي ادعى الإسلام لتمرير أفكاره الغريبة المشوبة بكثير من المغالطات بل يصرُّ على وصفه بـ”اليهودي الوفيِّ ليهوديته” والذي تظاهر باعتناق الإسلام لتحقيق أجندة فكرية مشبوهة.

لا أتفق مع عبد الحق التركماني ولا مع التيار السلفي في الأوصاف التي ألصقها بغارودي والتي تجاوزت اتهامه بالصوفية والباطنية والرافضية إلى اعتباره كافرا أصلا، لم يتخلَّ عن يهوديته إلى الإسلام، وهذا الموقف مثبت -كما قال- في فتوى للشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله، نشرت بمجلة البحوث الإسلامية عدد 50/ ص 361– 371. أقول إن حكمنا على الآخرين يقوم على ما علمنا من ظاهرهم وأما البواطن فلا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا يشمل حكمنا على غارودي، فالرجل أعلن إسلامه ولا نجد في كتبه وكتاباته ما يمكن أن يكون دليلا على ارتداده ولذلك لا يحق لنا شرعا أن نرميه بالكفر أو بشيء من هذا القبيل عملا بالأمر الإلهي: “ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا، تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا”. إن المسلمين ينبغي أن يكونوا أمة حاضنة، تحتضن كل من آوى إليها ودخل في رحابها، لا أمة طاردة، تطرد التائبين وتصدهم عن السبيل.

ظهرت حكاية “البيت الإبراهيمي” وطفت على ساحة النقاش الديني كمرحلة تمهيدية لمسألة التطبيع، لأن التطبيع الديني في اعتقاد من يؤمنون بفكرة التطبيع هو أرقى أشكال التطبيع وهو مقدَّمٌ على التطبيع السياسي الذي لا يكون إلا ثمرة من ثماره. لقد شُرع في بناء البيت الإبراهيمي في أبو ظبي قبل الشروع في وضع بنود اتفاقية التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وهذا دليلٌ على أن آلة التطبيع الديني قد سبقت آلة التطبيع السياسي.

قد يعترض علينا بعض المهووسين بمشروع “البيت الإبراهيمي” ويتهموننا بالانغلاق الفكري والتطرُّف الديني ومخالفة نصوص القرآن الكريم الذي يحتفي بإبراهيم عليه السلام ويعدُّه أبا لجميع المسلمين، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: “ملة أبيكم إبراهيم هو سمَّاكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس”، وكما يشير إليه قوله تعالى من سورة الشورى (الآية 13): “شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه”، وكما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، والأنبياء أخوة لعلات، وإن أولى الناس بابن مريم لأنا، إنه ليس بيني وبينه نبيّ”، وكما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتا، فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وُضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيِّين”.

إن أصول الملة الإبراهيمية التي أشار إليها الكتاب والسنة بعيدة كل البعد عن الهرطقة الفلسفية والسياسية التي تتحدث عن “البيت الإبراهيمي” الجامع لأتباع اليهودية والمسيحية والإسلام؛ فمن أصول الملة الإبراهيمية عقيدة التوحيد الخالص، وإنه لمن الهرطقة أن يشجع المسلمون أو يطوعوا لقبول فكرة البيت الإبراهيمي التي تجمع بين عقيدة توحيدية، تنزه الله سبحانه وتعالى عن الولد وعن اتخاذ الصاحبة، وتقرّ بأن الله واحد أحد فرد صمد، وبين عقيدة توحيدية على لسان أهلها وحسب ظاهر بعض نصوصها، ولكنها تعددية شركية في جوهرها، لا يرى أهلها حرجا في أن ينزل الإله إلى مستوى البشر فيكون له ولدٌ وتكون له صاحبة ويكون ثالث ثلاثة، ولا يرون حرجا في أن تصبح ديانتهم بلا إله لأن بعض خصائص هذا الإله قد تنتقل إلى البشر فيرتقي من مقام الناسوت إلى مقام اللاهوت.

إن أصول الملة الإبراهيمية التي أشار إليها الكتاب والسنة قائمة على شرائع الأنبياء، شريعة نوح وشريعة إبراهيم وشريعة موسى وشريعة عيسى عليهم السلام، وليست قائمة على رؤى يوحنا وإلهامات متى ومرقص، وليست قائمة على تخيلات الرهبان وأحبار آخر الزمان. إن شرط الدخول في الملة الإبراهيمية هو إقامة الدين وعدم التفرق فيه مصداقا لقوله تعالى: “.. أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه”، فكيف نقبل بفكرة “البيت الإبراهيمي” التي تلغي هذا الشرط وتحفزنا أو تُكرهنا على قبول من فرّقوا دينهم وكانوا شيعا وأحزابا؟

إن وحدة الدين التي أقرها القرآن الكريم تختلف عن فكرة وحدة الأديان التي يقول بها كثيرٌ من المتخصصين في الأديان، فوحدة الدين تعني وحدة المصدر الإلهي لقوله تعالى: “شرع لكم من الدين” وهذا يعني أن الدين هو شريعة الله وليس شريعة أحد، وشريعة الله منزهة عن كل تحريف، أما وحدة الأديان فهرطقة فلسفية انتقلت من الدراسات الفلسفية إلى الدراسات الدينية وهي فكرة مضلِّلة الهدف منها قبول اليهودية والمسيحية على علاتها وعلى أنها أديانٌ مضاهية للإسلام، وعلى هذا الأساس الخاطئ للأسف الشديد بنيت فكرة “البيت الإبراهيمي” التي يريد واضعوها إقناعنا وإيهامنا بأنها فكرة لا غبار عليها ولا تعارض أصول الاعتقاد الإسلامي.

بناءً على ما سلف، نخلص إلى نتيجة وهي أنَّ “البيت الإبراهيمي” ليست إلا مجرد هرطقة فلسفية وسياسية بتوابل دينية، وبالتالي فهي مرفوضة عندنا قولا واجدا، ولكن رفضنا لها لا يعني أننا أمة انعزالية، تفضِّل أن تعيش على كوكب الأرض منعزلة عن غيرها. إن الاجتماع من أصول ديننا، ومن أصوله أيضا احترام المُعاهِد والذمِّي واللاديني والتعاون معهم في المجالات الإنسانية والثقافية من غير أن يُطلب منا أو نُكرَه على مودتهم وولائهم، فيجب أن نفرِّق هنا بين التعاون الإنساني والولاء العقدي؛ فالأول مباحٌ مع الجميع والثاني لا يخص إلا جماعة المؤمنين، وعدم الولاء العقدي مع أتباع الديانات لا يعني عداوة المسالمين منهم والعدوان عليهم فالله تعالى يقول: “وقولوا للناس حسنا”.

أقول في النهاية وانطلاقا من تجربتي الشخصية، إنني لا أجد مانعا في حضور ندوات ومؤتمرات يحضرها اليهودي والمسيحي والبوذي وغيرهم، ولكنني أحرص على بيان الحق وتجلية الحقائق التي تعلمتها من الإسلام، فهذه الندوات والمؤتمرات في اعتقادي هي ساحات للمعارك الفكرية التي يحرص فيها كل حاضر ومُناظِر على نصرة عقيدته لا أن يكون ظلا للآخرين وجهاز استقبال يستقبل كل الأفكار.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
8
  • العربي

    بارك الله فيك
    اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا

  • العربي

    بارك الله فيك

  • محمد محمد

    الحقيقة المطلقة ليس حقيقة مطلقة

  • عبد الرحمان بن مبروك إليزي

    أحسن الله إليك يا أستاذ موضوع جدير بالقراءة وقد جملته بالوسطية التي ينبغي أن يجنح لها كل داعية وفقيه وكاتب

  • سعيد

    يالسي بولروايح الحقيقة المطلقة لايملكها الاسلام و لا المسيحية و لا اليهودية و لا غيرهم .ادعوك للتواضع و الابتعاد عن التعصب.

  • نافع

    أحسنتم.

  • يوغرطة الملك المحارب

    اذا كان اليهود قد حرفوا دين موسي وعيسي عليهم السلام وقتلوا انبياء الله ورسله ونشروا الفساد في الارض -الربا الزنا القتل .....- فاعراب وعربان الخليج خانوا دينهم وباعوا ارضهم لليهود -فلسطين -وشرفهم وكرامتهم وطبعوا وتصهينوا وحاولوا تحريف دين محمد العربي عليه الصلاة والسلام وادخال الزيف والتزوير فيه لكن هيهات ثم هيهات يا اعراب الخليج -اخترعوا المذهب الوهابي والذي هو حقيقة صناعة مخابراتية بريطانية لخدمة مصالح الصليبية بالشرق الاوسط - لن تنالوا من ديننا الاسلام الحنيف .
    قال تعالي : ومن يبتغي غير الاسلام دينا فلن يقبل منه صدق الله العظيم

  • ayman abdullah

    رأيك واضح واكاد اجزم ان الاجماع عليه..مع ملاحظة ان القرآن قد دعى الى لم الشمل تحت راية التوحيد(قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا .. الاَ نعبد الاَ الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله..فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)..وملاحظة ان محاولة تمييع الاسلام ومزجه مع غيره من الملل ليس بالجديد ..فالسيخ ملة حاول ملك هندي سابق مزج الاسلام بالهندوسية..تحياتي..