-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

التخبط الأمريكي مأزق إستراتيجية أم حتمية تاريخية؟

صالح عوض
  • 1101
  • 2
التخبط الأمريكي مأزق إستراتيجية أم حتمية تاريخية؟

صفقة القرن متعثرة ولن تحقق شيئا إضافيا للأمريكان، الانسحاب من سورية وفقدان حلفاء أمريكا المواقع الحساسة في الصراع، انتفاضة العراق بعد طرد الجيوش الأمريكية لتصفية الدولة من مخلفات الاحتلال، وفي العالم توتر متشعب أمام السياسة الأمريكية في أوروبا ومع حلف الناتو والصين ودول أمريكا اللاتينية فيما الخصوم المنافسون يتقدمون في أكثر من موقع، خسائر فادحة تتراكم من حروب فاشلة، سياسة يبدو عليها عدم التوازن وتعرِّي أمريكا تماما كما قال جون كيري، فما الذي جرى؟
من الضروري متابعة الشأن الأمريكي وتطوراته لأن أمريكا حتى الآن هي الموجِّه للسياسات الدولية في معظم الكرة الأرضية وهي القوة التسلطية العدوانية التي يحسب لها الحكام والنخب الحساب الحاسم.
بمتابعة الدراسات الاستشرافية وتحليلات المفكرين الحضاريين والتاريخيين الغربيين لاسيما الأمريكان منهم والتي تعج بها المكتبات الأمريكية في المرحلة الأخيرة نقترب من رفع عنوان للمستقبل الأمريكي ألا وهو انهيار الامبريالية الأمريكية وتدهورها نحو مصيرها الأسود.
وفي السياق التاريخي لحركة الامبريالية الغربية نكتشف أن الحروب الخارجية هي من يسرع بسقوطها وتفسخها المادي بعد أن تكون فقدت مبررات وجودها الأخلاقي وقوة دفعها الروحي.. فكل توسع في ساحات المعارك الخارجية هو في الحقيقة باب استنزاف للامبريالية الغربية والأمريكية بالخصوص يجرها نحو حقول ألغام متجددة، ورغم كل الجهود التي بذلتها مراكز التحليل والبحث حول المجتمعات المستهدَفة، ورغم الاختراقات العميقة التي قامت بها المؤسسات الأمنية والثقافية الأمريكية في أوساط الشعوب المستهدَفة إلا أن المفاجآت القاتلة كانت دوما بانتظار جحافل الامبرياليين تكبدهم خسارات فادحة وتكشف لهم أن كل ما عرفوه عن المنطقة هش وسطحي.
منذ استوت الولايات المتحدة الأمريكية على طريقها الامبريالي واشتد ساعدها أخذت في البحث عن كيفية مشاركة القارة الأوربية استراتيجياتها في الاستعمار والهيمنة، وشيئا فشيئا انتقل المركز الاستعماري التسلطي من عواصم أوربا إلى واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية وقنابلها النووية التي حسمت الحرب. انتقل مركز الاستعمار الغربي إلى واشنطن حيث تركزت قوة المال والشركات العملاقة وكان القرن السابق قرن الصعود الأمريكي على حساب أوربا التي كانت تسلم ملفاتها الكبرى للإدارات الأمريكية ملفا بعد آخر، وكان الملف الفلسطيني هو جوهر هذه الملفات إذ كانت مساهمة الإدارة الأمريكية أساسية في استصدار قانون من البرلمان البريطاني مؤيدا وعد بلفور.
وعلى مدار قرن من الزمان نشطت المؤسسات الاستعمارية المالية والأمنية والثقافية والإعلامية والسياسية في الولايات المتحدة لتشكل سياجا أمنيا للكيان الصهيوني في كل مشاريعه العدوانية على الأرض والإنسان في فلسطين والمنطقة.. ولكن لم تكن حماية الكيان الصهيوني هي غاية الإستراتيجية الأمريكية بل هي وسيلة أساسية لتحقيق جملة أهدافها في المنطقة بنهب ثرواتها وتكبيلها بقانون التبعية وإرهاقها بسلسلة الانقلابات والقلاقل وتوهين عرى الأخُوَّة بين البلدان العربية بل وزرع عناصر الفتنة لكي يظل العرب خارج دائرة الفعل الحضاري ويكونوا دوما في حالة التبعية واللجوء إلى المعلم الغربي والأمريكي.. ويصبح موضوع فلسطين خارج دائرة الممكن بالنسبة للنظام العربي المكبَّل بالخوف من إثارة أمريكا للزوابع السياسية والاجتماعية داخل البلد..
رسمت الإدارة الأمريكية استراتيجياتها اتجاه المنطقة دوما على اعتبار أنها هي من يجب أن يُرشِّح لقيادة المجتمعات العربية الأشخاصَ أو التيارات، وفي حال فلتان نظام حكم من إمكانية ضبطه في السياق الأمريكي فإنه يتعرَّض لتحدي وجود بوسائل عدة وتفيد مذكرات ضباط المخابرات الأمريكية والشخصيات السياسية صاحبة النفوذ بأن التدخل الأمريكي لم يترك بقعة من وطننا العربي وعالمنا الإسلامي بعيدا عن أهدافه وخططه.
وبهذا كانت كل استراتيجيات الإدارات الأمريكية والسيناريوهات التي تعدُّها مكاتب التحليل وتقدير الموقف أو مراكز الدراسات الخاصة في أمريكا تقوم على روح عدوانية تبيِّت الشر والتخريب للمنطقة العربية وهذا خللٌ منهجي في الاستراتيجيات الأمريكية التي لم تطرح يوما فلسفة الشراكة أو تأهيل الدول البدائية في المنطقة أو تقيم علاقات قائمة على الوضوح في فوائد متبادلة كل ذلك حصل عكسه.. فكانت منذ اللحظة الأولى عبارة عن قوة استفزاز ونزف للمنطقة في المجالات الحيوية والحساسة جميعا فأمريكا عبر عشرات السنين هي حامية العدوان الصهيوني باغتصابه أرض فلسطين وتهجير أهلها أو ذبحهم، وأمريكا هي التي تتحكم بأسعار النفط ثروة العرب الرئيسية، وهي التي تثير المشكلات التناحرية بين الدول العربية.. وتحرِّض بعضهم على بعض وتدفعهم نحو حروب عديدة في مجالات الحياة كلها.. وأخيرا أمريكا هي التي احتلت بلدين مسلمين مباشرة وقتلت ملايين العرب والمسلمين في أفغانستان والعراق وقصفت أمريكا بعنف في السودان وسورية وتهدد دولا إسلامية ليس إلا لأنها اختارت نظاما مغايرا، إنما لأنها تريد أن تبقى سلسلة المشكلات والانهيارات والتناحر الذاتي لتحقيق الرغبة الاستعمارية.
الإدارات الأمريكية لا تختزن رصيدا تاريخيا كافيا للتعامل مع الشعوب وثقافاتها ولم تفكر بإقامة علاقات ندية مع الشعوب وثقافاتها، ولذلك كانت تعمد عند دخولها أي بلد إلى تدمير الصورة التقليدية له من خلال كل مكوناته.. ومن جهة أخرى لم تستفد أمريكا جوهريا من الدرس الصارخ في عملية انهيار الاستعمار الفرنسي والبريطاني والاسباني والإيطالي، وكان مبدأ التسيد على العالم الذي طرحه كل الرؤساء الأمريكان هو المدخل في صياغة الموقف ووضع الإستراتيجية.. ومن هنا كانت روح العدوان أصيلة في الإستراتيجية الأمريكية والسياسة الأمريكية نحو الآخرين وهي نقطة قاتلة.. أدرك الصهاينة طبيعة الروح الامبريالية الأمريكية فوجدوا فرصتهم في تأمين النقاط الأمامية في الهجوم وإشغال الأمة عن حقوقها فيما يتقدم الاختراقُ الصهيوني للموقف الأمريكي منذ عشرات السنين متخذا من التصعيد سبيله حتى عادت الإدارات الأمريكية تعتمد بشكل كبير على خطط الصهاينة ومواقفهم ومصالحهم المتجددة لاسيما وأن الموقف الأمريكي لا يكلف الإدارة أي خسارة أو حرج من قبل العرب الأمر الذي أمعن في غرورهم واستخفافهم بالعرب والمسلمين.
ولكننا في ربع القرن الأخير نعيش مرحلة تتلاحق فيها الخسارات الإستراتيجية التي تُمنى بها الامبريالية الأمريكية نتيجة تهورها في فتح حروب متعددة وعلى أكثر من مستوى في العالم لاسيما ضد أمتنا، وشعر الأمريكان بأنهم في نهاية دورتهم التسيُّدية على العالم فعلا الصوت أن أفضل سبيل هو الهروب من ساحات الاشتباك وكان مجيء ترمب تتويجا للوعي المجتمعي.. في هذه السنوات القاسية سجلت الإستراتيجية الأمريكية فشلا ذريعا في أفغانستان والعراق؛ فبعد إتمام احتلال الجيوش الأمريكية البلدين المسلمين في 2001 و2003 انطلقت المقاومة في أفغانستان والعراق مكبدة الجيوش الأمريكية أفدح الخسائر ممثلة في مقتل عشرات آلاف الجنود والضباط الأمريكان، كما لحقت بالخزينة الأمريكية خسائر غير مسبوقة، وعلى الأرض انسحبت القوات الأمريكية من الموقعين في فترة قياسية بسبب الانهيار البالغ في خزينتها وقدرات الجيش الأمريكي، كما انتشرت روح العداء للامبريالية الأمريكية كما لم يحصل من قبل.. هنا لابد من القول إن أصداء حروب أمريكا كانت تضرب بعمق في القدرة الشرائية للمواطن الأمريكي الأمر الذي أقعد الشركات العقارية على حافة الطرق وسحب كثيرا من البنوك إلى الإغلاق وإعلان الإفلاس كما حصل لشركات أخرى.
من جهة أخرى تنامت قوة دولية واستطاع الروس إعادة ترميم قوتهم ودورهم العالمي والدخول على الملفات الصعبة والمعقدة التي فتحتها الإدارة الأمريكية ولم تستطع غلقها.. وأصبح الحضور الروسي منافسا قويا ومتحكما في الملفات التي تناولها فيما تواصل أمريكا انسحابها لأنها بوضوح لا تريد تقديم خسائر..
لعل الإدارة الأمريكية خسرت كثيرا عندما اندفعت نحو الحروب لتحقيق تسيدها على العالم وهي الآن تخسر كثيرا لانسحابها من ملفات أنفقت فيها تريليونات الدولارات تاركة المسرح لقوى منافسة أو عدوة..إنها حتمية التاريخ وتخبُّط السياسات وفشل الاستراتيجيات ليتحقق وعد الله للمستضعفين بأن يرثوا الأرض ويحققوا نصرهم ويفتح الطريق أمامهم للتفكير متحررين من وهم القوة التي لا يقف أمامها أحد.. تولانا الله برحمته.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • أنا

    لا يمكن مقارنة أمريكا بالإتحاد السوفياتي لأن مقومات التفوق الأمريكي عديدة و أهمها الاقتصاد القوي المتعدد (صناعة+فلاحة) و التقدم التكنولوجي في كل الميادين.

  • جزائري

    حالة امريكا تشبه حالة الاتحاد السوفياتي عشية سقوطه. يبدو ان للروس يد خفية ستنتقم من امريكا بتوريطها في مستنقع يشبه المستنقع الافغاني اللذي ورطت فيه امريكا الاتحاد السوفياتي فانهار. الملف النووي شراك روسي تفطنت له امريكا متاخرة . امريكا تعمل على خلط الاوراق لكن فات الاوان لذلك جاءت امريكا بترامب لخلط المزيد من الاوراق لعل ذلك يفرمل تفوق القادمين الجدد الاكثر فعالية واللذين سبتسببون في ازاحة امريكا عن الصدارة ثم انهيارها لان امريكا اما ان تكون الاقوى او لا تكون فلا معنى لامريكا اضعف من اية قوة اخرى