-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الجامع الأخضر.. عارُنا الذي لا يُمحى

حسن خليفة
  • 2342
  • 10
الجامع الأخضر.. عارُنا الذي لا يُمحى
ح.م

انتشرت في المدة الأخيرة ـ على نطاق واسع ـ في الفضاء الأزرق، صور مفزعة معبّرة، شديدة الأثر والوقع على النفوس.. صور الجامع الأخضر العريق بقسنطينة، وصور مماثلة لمنزل الشيخ الإمام عبد الحميد ابن باديس المتهدم، وصور أخرى نُشرت من قبل عن المطبعة الجزائرية الإسلامية وقد آل حالها إلى ما يبكي القلب قبل العين.

هذه ثلاثة معالم من معالم الوضاءة والقوة والعلم والاجتهاد في الدين والحياة في بلادنا، معالم لها قيمتها في التاريخ وفي الجغرافيا وفي موازين العلم والفضل والفضيلة، وأيضا في موازين الجهاد العلمي والفكري والديني؛ إذ يمثّل كل معلم من تلك المعالم كتابا ناطقا بالسؤدد والعز والجهد والبذل والرعاية والنهضة والاجتهاد..

السؤال كما تكشف عنه الصور المؤثرة القاتلة: كيف انتهت هذه المعالم إلى هذه النهاية المؤسفة القاتمة، وقد صارت (تلك المعالم) محلا لرمي الزبالة والردوم وما يشبه من أنواع المخلّفات؟ كيف أمكن الوصول إلى هذا الحدّ القاتل من الإهمال والازدراء والاستهتار بميراثٍ ديني وثقافي وحضاري شامخ عظيم.. حتى صار مكانٌ كالجامع الأخضر فضاءً لرمي الفضلات والتبوّل أكرمكم الله، حتى لا أقول شيئا آخر أقسى وأكثر إيلاما؟.

أما منزل ابن باديس فتكفي الصور المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي للدلالة على ما وصل إليه هوان تراثنا وفكرنا وإهانتنا لرموزنا بأبشع صور الإهانة.

وأما المطبعة فأمرُها غريب كل الغرابة؛ إذ لم يكف أن يُهتم بها وتُرمم ويعاد إليها ألقها الثقافي ويجعل منها متحفا للزوار يشهد على مدى الاهتمام والاخلاص والجهد الموصول الذي بذله عظماؤنا من أهل الصلاح والإصلاح والفكر والعلم والدين، في الكتابة والتأريخ والطبع والنشر، بما حفظ تاريخ الجهاد الثقافي للأمة الجزائرية ونقله إلى الأجيال القادمة. لقد صارت المطبعة همَّلا أسدل فجور النسيان والإهمال والاستهتار ستارها عليها، حتى صارت مضرب المثل في الإهمال والنكران، بل مثالا في خيانة الإرث والتنكر له؛ لأن الأمر يتصل بمطبعة، وما حقيقة المطبعة ودورها في الحضارة الإنسانية ببعيد. فأي إجرام في حق التاريخ وحق التراث؟ وأي نوع من البشر نحنُ؟ وأي وعي وأي فكر بائس نحمل؟ والأمر يتعلق بنا جميعا، بلا استثناء.. سلطة ووصاية ووزارة وجمعيات وشعبا… وبالطبع فإن جمعية العلماء تتحمّل جزءا من المسؤولية في هذا لأنها وثقت فيمن يجب أن لا تثق بهم حين أعلنوا عن الترميم وإعادة إحياء المعالم التراثية والتاريخية.

أما الجامع الأخضر.. فحدِّث ولا حرج.. وما أدراك ما الجامع الأخضر أيقونة الجوامع والمساجد الرسالية الحية التي أدت أفضل وأجمل أدوارها، تعليما وتربية وتكوينا، وتحفيظا للقرآن الكريم وتفسيره ونشره، وإعدادا للإنسان وحفاظا على المقوِّمات والثوابت وخدمة للدين والعربية والوطنية.. عبر عقودٍ من الزمن.

دعنا نعرض ما كتبته إحدى الصحافيات عنه لبيان بعض الحقيقة.. قالت (جريدة النصر 2017)

“عندما وصلنا إلى المسجد، وجدنا أنفسنا أمام بناية مال لونُ جدرانها الخارجية إلى السواد من شدة اتساخها، وتبدو للناظر أنها لم تُدهن منذ سنوات طويلة، في حين لا تزال مُعلقةً في مدخلها لافتةٌ رخامية تشير إلى أن هذا المعلم كان ذات يوم شاهدا على انتفاضة المسلمين ضد اليهود لاعتدائهم على المقدَّسات الإسلامية، في 5 أوت 1934، لكن ما أثار انتباهنا هو عبارة “ممنوع السِّباب” التي يظهر أن بعض السكان لجأوا إلى كتابتها على الحائط احتراما لقدسية المكان.

حاولنا البحث عمّن يمكنه أن يدلنا من السكان إلى الشخص المكلف بحراسة مسجد سيدي لخضر، والذي قد نجد عنده مفتاح البوابة، لكن فوجئنا بأن لا أحدَ من الجيران يملك المفاتيح، إلى أن صادفنا أحدهم، وهو شاب اسمه طارق قال لنا إنه وبحكم أنه يعيش قرب المسجد، أخذ على عاتقه مسؤولية حمايته ومنع تخريب ما تبقى منه، عن طريق سدّ المداخل الفرعية للمسجد بالوسائل المتاحة أمامه، ولمساعدتنا على دخول المكان من جهة المائضة، كان على طارق أن يزيح نقالة يدوية “برويطة» وبعض الأغراض الصلبة، التي وضعها، ليس للحفاظ على المسجد فقط، بل أيضا لمنع اللصوص من التسلل إلى داخله والسطو عبره على السكنات والمحلات الملاصقة”.

ثم يكشف الروبورتاج حقائق مشينة عن الاهمال وغياب المتابعة، واللامبالاة، وعدم الوعي بأهمية المكان وقدسيته وتاريخيته وأدواره العظيمة في تاريخنا الديني والثقافي والوطني الحديث والمعاصر.

لمن لا يعرف الجامع الأخضر نقول: إنه مسجدٌ أسس بقسنطينة سنة 1156 للهجرة، أسسه حسن باي، لإقامة الصلوات والذكر والتعليم، وفي جواره مدرسة ملاصقة له نشرت العلم والمعرفة في العهد العثماني بقسنطينة.

وقد سُمِّي الجامع الأخضر أيضا باسم الجامع الأعظم، وتستند شهرته إلى إبي النهضة الجزائرية الشيخ العلامة عبد الحميد ابن باديس الذي قام بالتدريس فيه لمختلف طبقات التلاميذ، مع دروسٍ أخرى، على مدى إحدى وعشرين سنة، كما فسَّر فيه القرآن الكريم على مدى خمس وعشرين سنة. وكانت بداية التدريس فيه كما جاء بقلم الشيخ ابن باديس نفسه.. “أما بداية تعليمي فيه، فقد كانت أوائل جمادى الأولى عام 1332هـ (1913م) وكان ذلك بسعي من سيدي أبي لدى الحكومة فأذنت لي بالتعليم فيه بعد ما كانت منعتني من التعليم بالجامع الكبير، بسعي من المفتي في ذلك العهد الشيخ المولود بن الموهوب “(الشهاب ج 4 ص 303).

كيف لنا أن نلقى الله ونحن على هذا النحو من الهوان والغفلة وتنصّل من الأمانة؟ كيف لنا أن نُؤتَمن على الدين والثقافة والفكر ورعاية الأجيال ونحن نضيّع ـ بقدر كبير من الوقاحة وسوء التصرف ـ ميراثا تركه العظماء، ميراثا كان سببا في حياة أجيال وأجيال، وكان سببا في الحفاظ على الوطن نفسه؟ أيُّ عار لحقنا ويلحقنا ونحن سادرون في غيّ أو في غيبوبة لا تلتقط أرواحُنا ونفوسنا وعقولنا هذا الميراث بمفرداته العظيمة: المسجد، المطبعة، بيت باني المؤسس وباني النهضتين الدينية والعلمية؟ أليس نفاقا أن نحتفي بذكرى 16 من أفريل كل عام ونحن على هذا العقوق المشين لما تركه لنا الأسلاف الماهدون؟ أليس من العار أن ننتسب إلى ميراث ونحن نزدريه ونهمله ولا نهتم به، بل ولا ندافع عنه. فلنتخيل فقط: لوكان ابن باديس حيّا؟ ولو كان صحبُه من الأعلام أحياء ماذا كانوا سيقولون عنا وهم يرون ما يرون مما آل إليه ما تركوه لنا؟!

إن أقل وفاء أن نكفّر عن هذه الخطيئة بالتداعي إلى صيانة هذا الميراث بجمع الأموال وإحداث جهاز للاهتمام بترميم المخرَّب والمهمَل وإعادة الحياة إلى كل ما تعرَّض للقتل بالإهمال. كيف يجب أن يكون ذلك؟.. لنبتكر.. لنجتهد.. لنسعى… فإن كل الأمم تهتم بتاريخها وتراثها وتضعه في المقام الأول صيانة ورعاية، وتعمل على إيصاله إلى الأجيال بكل الوسائل.. كل الأمم.. إلا هذه الأمة العجيبة.. النائمة.. التي ترمي الفضلات على أبواب الجوامع وتتبوّل على هياكل بيوت قاماتها (مالك بن نبي في تبسه). تبّا لنا جميعا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
10
  • رزقي حمية

    ارى ما وراء بعض الإخوة المعلقين:انشاء جمعية تتولى السعي والعمل لهدف أساس لها (ترميم هذه المعالم)والحفاظ عليها . والله الموفق جزاك الله خيرا استاذ

  • محمد الوهراني، مانشستر

    "إن أقل وفاء أن نكفّر عن هذه الخطيئة بالتداعي إلى صيانة هذا الميراث بجمع الأموال وإحداث جهاز للاهتمام بترميم المخرَّب"

    لا يا أخي الكاتب، هذا ليس دور المواطن المسكين. كان عليك أن تنتقد ما يسمى "وزارة الثقافة" او بالأحرى وزارة الغناء والرقص. في كل دول العالم، خاصة العالم المتقدم، تقوم وزارات الثقافة بترميم الأماكن الأثرية وصيانة المباني التاريخية... الا عندنا في الجزائر منذ 1992 كل وزراء الثقافة المتعاقبين كا نوا وزراء اللهو والمجون، وحاولوا الميزانية من المفيد إلى غير المفيد... رحم الله الاستاذ الفيلسوف والمفكر المسلم عبد المجيد مزيان وزير الثقافة الجزائري في الثمانينات

  • mohammed

    عيب البلاد على رجالها، أين أبناء قسنطينة

  • معمر

    البعض ألقى المسؤولية على الدولة ممثلة في وزارة الثقافة واجاب البعض ان هؤلاء يهتمون بالتماثيل العارية
    وانا أتساءل اين الجمعيات الدينية والثقافية وأين المجتمع المدني وأين رجال الاعمال ...؟
    فلو قام هؤلاء وأسسوا جمعية مصغرة ومرخصة لترميم المسجد وغيره لتمت العملية في غضون شهور في ظل الاقبال المتوقع من المواطنين والتجار ورجال الاعمال على التبرع
    ماينقصنا هو المبادرة الى فعل الخير ....فبادر الى فعل الخير يامواطن ولاتُلقي اللوم على الاخرين

  • KF

    رغم ان القضية مسؤولية كل الجزائريين الا ان المبادرة يجب ان تكون من ابناء قسنطينة ورجال اعمالها وهذا اسوة بما فعله ابناء بسكرة وبعض رجال اعمالها لما قاموا بحملة قصد ترميم صرح الشيخ عقبة بن نافع الفهري بمدينة سيدي عقبة بداية التسعينات وقد استجاب لهذه الحملة كل الشعب الجزائري بتبرعاتهم واتذكر هنا سيدة من مدينة الشلف كلمتني عن كيفية ايصال الاموال الى بسكرة فدليتها على احد البنوك وهو من يقوم بايصال تبرعاتها الى حساب جمعية هذا المسجد ببسكرة وقد تم . ولله الحمد والمنة.

  • شهص

    إنها وزارة (السخافة) التابعة للعصابة التي لا ترمم إلاّ التمثيل العارية بينما المساجد و دور العلم فهي في آخر الأولويات !

  • Karim

    على القيادة الجديدة للبلاد وضع وزارة الثقافة و التعليم بين أيدي آمنة مخلصة لوطنها لأن العصابة التي قادت البلاد كانت قبلتها باريس Paris و لهذا لم تكن أي اهتمام لكل ما له صلة بهويتنا.

  • سعد

    اسالوا من كان وزيرا الثقافة و أراد أن يكون رئيسا للجمهورية قامت الدنيا و لم تقعد من أجل تمثال تركه الاستعمار. و يستهان بمثل هذه المعالم

  • جمال انس

    لو كان في هذا المسجد زاوية او بالقرب منه تمثالا لـ "امراة عين الفوارة" المشهورة بسطيف وتعرضت للتحطيم من بومارطو ، لسارع بعضهم في ترميمه بالملايير واعادوا له الاعتبار ..!!! كما اتساءل عن دور جمعية العلماء المسلمين و ماذا فعلت و/او ستفعل لحماية هذا المعلم التاريخي المرتبط بتاريخ مؤسسها و رائد النهضة الجزائرية الحديثة؟؟؟ و الله المستعان...

  • إسماعيل الجزائري

    لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم!!