-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الجحيم.. والسبق الجزائري في مجال صحافة القيّم

حسن خليفة
  • 942
  • 1
الجحيم.. والسبق الجزائري في مجال صحافة القيّم
ح.م

“الجحيم” عنوان هذا العمود هو في الأصل جريدة صدرت بمدينة قسنطينة، صدر العدد الأول منها يوم 30 مارس 1933، وهي جريدة حرّة مستقلة، يقوم بتحريرها نخبة من شبّان الزبانية تتنفس يوم الخميس من كل أسبوع، شعارها “العصا لمن عصى”. وكانت تصدر في أوراد حمراء، صدر منها سبعة أعداد فقط، وعطَّلها المستعمر بأمر من وزير الداخلية الفرنسي ـ آنئذـ وكان من كتابها عددٌ من الشبّان المصلحين مثل: محمد السعيد الزاهري، وعبد الرحمن غريب، ومحمد الأمين العمودي وغيرهم من شباب الجزائر ذوي الاتجاه الإصلاحي الثوري في ثلاثينيات القرن الماضي (نفح الأزهار، ص163).

وليس المراد هنا التأريخ للصحافة الجزائرية، على الرغم من أهمية هذا الأمر، وأهمية بيانه للطلاب والدارسين في الجامعات وفي سواها من المؤسسات العلمية والبحثية، وإنما المراد هو بيان “السبق” الذي حققه الجزائريون في مجال (الصحافة والإعلام)؛ إذ كانوا سبّاقين، على مدار الأزمنة إلى كل ما هو “مؤثر” وإلى الاجتهاد والتفوّق في استخدام وسائط العصر المتاحة في كل وقت وحين، وذلك بالرغم من العبء الاستدماري الذي كانت تنوء تحته الجزائر، متمثلا في الحصار، والحرمان، والقهر، والتخريب، والعدوان على كل شيء، بالأخص ما يتعلق بالتعليم والعلم والثقافة من قبل المستدمر الاستيطاني البشع الذي استهدف ـمنذ البدءـ اقتلاع جذور هُوية الجزائر المسلمة العربية المتميزة.

أتصوّر أن إعادة قراءة موضوعية لتاريخنا في الإعلام والصحافة سيتيح لنا أن نكتشف كم كان الجزائريون سبّاقين في هذا المجال، ليس من حيث الانبعاث إلى إنشاء الصحف والمنابر الصحفية والنوادي وما يشبه فحسب، بل للمضامين التي المتميزة وللخط التحريري الاستثنائي القوي الذي كانت تعتمده تلك الصحف. ومن يستقرئ القيّم الصحفية والفكرية في صحف الجزائر منذ نشأتها يمكن أن يقف على خزّان هائل من القيمّ والمضامين التي أبدع الجزائريون في تجسيدها من خلال ما سعوا إليه من إصدارات صحفية قمينة بكل تقدير، منذ وقت مبكر جدا، وعلى تماس مع نشأة الصحافة في العالم العربي.

وثمة أمرٌ آخر ربما وجدنا في الجزائريين خاصة المثقفين منهم من كان صاحب سبق حقيقي في هذا المجال، ما يعني أن “إدراك” فضيلة الصحافة والإعلام كان قويّا وحادا عندهم، وأن استشعارهم لأهمية الصحافة وخطورتها كان أحدّ وأقوى عندهم من غيرهم.

رجلٌ استثنائي كالشيخ إبراهيم أبي اليقظان الجزائري صاحب أول مطبعة (1931) والذي أصدر 10 جرائد ليس في الجزائر فقط، بل في تونس والقاهرة أيضا، وهذا يجب أن يكون محلّ ملاحظة ودراسة، ومن تلك الصحف: وادي ميزاب، ميزاب، المغرب، البستان، الأمة، الفاروق، الإقدام، المنير، الإرادة، المنهاج… رجل استثنائي كهذا لا بد أن يثير الاهتمام الجاد من الباحثين حين يستقصون هذا الاهتمام وهذا الإصرار وهذا الشغف والحبّ للصحافة، ومن وراء ذلك تلك الإرادة الفولاذية في المضيّ قُدما في سبيل الصحافة إلى حدّ يقل مثيله. ويكفي أن نستعرض هنا طبيعة فهمه للصحافة حتى نرى تقديره العالي لها كحامل للقيّم، حيث قال من قصيدة له:

إن الصحافة للشعوب حياة والشعب من غير لسان أموات
فهيّ اللسان المفصح الذلق الذي ببيانه تُتدارك الغايات
فهي الوسيلة للسعادة والهنا وإلى الفضائل والعُلا مرقاة
فيها إلى الأمم الضعيفة ترفع الرغبات ومنه تبلغ الغايات
(موسوعة الشعر الجزائري).

وأعتقد أنه ليس ثمة حاجة إلى الشرح، خاصة فيما يتصل بالقيّم والرؤية الحضارية لمفهوم وطبيعة الصحافة ودورها العظيم إذ جعلها لسانا مفصحا ببيانه تُتدارك الغايات.

ومثله شقيقه في حب الصحافة وصناعة التغيير والتأثير العلامة ابن باديس (بالمناسبة كلاهما من جمعية العلماء) الذي كانت الصحافة بالنسبة إليه “عالما عظيما” ومقدسا، وقد سعى لترسيخ هذه القناعة إلى درجة أنه كلما أغلِقت له صحيفة بادر إلى إصدار شقيقتها على الفور، من دون كلل ولا ملل.

الأسئلة التي أتصور أنه من الواجب والمفيد طرحا، وذلك لربط الحاضر بالماضي ومحاولة فهم وإدراك الفوارق بينهما: كيف ينبغي أن نفهم هذا الإدراك المبكر لأهمية الصحافة عند هؤلاء الأفذاذ؟ وماذا يمكن أن نستفيد منه اليوم؟
وأيضا السؤال: لماذا كان حرصهم على “صحافة القيم” دون غيرها؟ وماذا يمكن أن نستفيد أيضا في إعلامنا اليوم من ذلك؟
مناسبة هذا الحديث هو ما نراه اليوم في ساحتنا الإعلامية من وفرة وافرة في العناوين والأسماء ولكن من دون كبير تأثير حقيقي، ومن دون وضوح خط القيّم في الخط التحريري العام. وهو أمرٌ يدعو فعلا إلى الدهشة، كما يدعو إلى أهمية التحرّي والتقصّي والبحث في هذا المجال الحيوي.

هل يمكن ـ بالفعل ـ أن يكون أولئك الأفذاذ أفضل منا في هذا المجال، مع أنهم عاشوا في ظروف صعبة وقاسية، لا يمكن أن تُقارن ـأبداـ بظروفنا الحالية؛ حيث اليُسر، والوفرة، والإمكانات، والموارد، والقوة المالية، وكثرة وسائل الإنتاج… ثم وهذا سؤال أخر مربك: هل فهم طبيعة الصحافة والإعلام عموما يحتاج إلى استعداد خاص، وتنزيل (تجسيد وتطبيق) خاص حتى يؤتي ثماره ويحقق أهدافه؟

بمعنى آخر: هل إن خيباتنا في تحقيق التأثير المجتمعي الحيوي الإيجابي في محيطنا الإنساني الاجتماعي إنما هو بسبب غياب ذلك الفهم، وبالتالي فإن قُصارى ما نحققه هو الإعلام من دون أي أثر إيجابي ينهض بالمجتمع ويسمو به، أو لعل المسألة متعلقة في الأساس بالنية.. إذ كانت نياتهم غير نياتنا اليوم ..

ليس مجرد تفكير بصوت مسموع هنا بقدر ما هو محاولة لألفات النظر إلى أمور كثيرة.. كيف حققوا الاستحقاق بأدوات بسيطة وساهموا في رقيّ المجتمع وصونه وحمايته والمحافظة على مقوماته؟ وكيف انخرطنا في تمييع المجتمع وتضييع كل فرصة لتحقيق الأمور الإيجابية من خلال الصحافة والإعلام؟
فمن يجيب؟

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • قل الحق

    في الصميم استاذ، ما زرعه استعمار العصابة لعقدين في اذهان الجزائريين الذين اصبحوا كالالات المبرمجة وفقا لمخطط ماسوني تغريبي صهيوني تبناه استعمار العصابة، لا يمكن ان يزال الا بثورة علمية ثقافية تاريخية مبنية على القيم يقودها الاعلام بكل اشكاله لاعادة بوصلة هذا المجتمع الى اتجاهها الصحيح.
    ينبغي ان يعود ذلك الجزائري الذي يقرا و يطالع و يعشق ندوات ملتقى الفكر الاسلامي التي استخلفت بسهرات بن شيخ و معزوزي و كان الحياة هي كرة القدم.