-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الحَراك في تقارير البعثات الدبلوماسية المعتمَدة في الجزائر

الحَراك في تقارير البعثات الدبلوماسية المعتمَدة في الجزائر
ح.م

تعززت المهام الملقاة على عاتق البعثات الدبلوماسية المعتمدة في الجزائر، في رصد تطوّرات الأوضاع الجارية في الساحة الوطنية، منذ انطلاق الحَراك الشعبي، الذي قلَّب كل الموازين التقليدية التي احتمت بها المنظومة السياسية، وساق كبار المسؤولين في الدولة إلى السجون على ذمة قضايا فساد، وإهدار المال العام.

قراءة البعثات الدبلوماسية للحدث الوطني الراهن، لها أبعاد أخرى، طالما كان جزءا من مهام دوائرها السياسية، المكلفة بإبلاغ دولها عما يجري في ساحة عملها، ومدِّها بالمعطيات والمعلومات المتحصل عليها، وفق ما يسمح به القانون الدولي، وما تخوله الاتفاقيات الدولية المنظِّمة لعمل البعثات الدبلوماسية.

ولا يبدو المشهد الجزائري معقدا أمام البعثات الدبلوماسية التي تتابع الأوضاع عن كثب، فهو واضحٌ بكل تفاصيله وتطوراته، التي تتناقلها وسائل الإعلام بشقيها الخاص والرسمي، بشفافيةٍ غير معهودة من قبل، ولا يتطلب عملا سريا لجمع ما تبتغيه من المعلومات؛ فالحراك الشعبي المنظم في مواعيد انطلاقه أسبوعيا، وساعة تجمّعه وافتراقه سلميا، يمكن لأي متطلع قراءته بوضوح، وإدراك التقاء شرائح الشعب على اختلاف أنواعها، في إرادةٍ واحدة، تجسِّد تطلعه لبناء جمهورية جديدة تلبي أرقى طموحاته الحضارية.

انتظرت بعض البعثات الدبلوماسية إجراءً معتادا في البلدان التي تشهد أحداثا أو متغيرات كبرى، يتمثل في استدعاء رؤساء البعثات المعتمدة لتقديم توضيح رسمي لها حول ما يجري داخليا، بهدف تطمين دولها على مصالحها وحقوق وأمن رعاياها، ومستقبل علاقاتها السياسية والاقتصادية، لكن سلمية الموقف في الحراك الشعبي المتواصل، وسلاسة الإجراءات القضائية في جرِّ كبار المسؤولين إلى التحقيق قبل إيداعهم السجن، ألغت الحاجة لمثل هذا الإجراء في الجزائر.

وما كان قريبا من أذهان مراقب أجنبي لم يبلغ عمقَ العقل الجزائري في إدارة شأنه الوطني بإحكام المنطق الحضاري، أن يشهد انقلاب المؤسسة العسكرية على الدستور، كما يجري في دول إفريقية، لكن ما شهده هو مرافقة المؤسسة العسكرية للحراك الشعبي، وحمايته ومنع اختراقه، ودعم السلطات القضائية والدستورية، بصلاحيات مطلقة في محاكمة العابثين بالمال العام، وبسط الأرضية الملائمة لحوار وطني يرسي دعائم استقرار البلاد في بناء جمهورية العدالة والتقدم المنشود.

لقد احتفظ المشهد الجزائري الراهن بخصائصه، رغم عظمة المتغيرات التي أذهلت العالم، في أجواء من السلم والأمان، هذا ما اتفقت عليه البعثات الدبلوماسية التي لم تلجأ عبر قنواتها الرسمية إلى إدراج الجزائر في قائمة البلدان التي تشهد نزاعات أو أزمات سياسية تضطرها لاتخاذ إجراءات احترازية أو أمنية تؤثر على حجم التبادل السياسي والاقتصادي والثقافي مع دولها، فهي أداة الانفتاح والتواصل وإنماء التعاون الدولي.

أنموذج جديد، في قيادة حركة تغيير جذرية، وفق سياق مدني بحت، عزل القوى السياسية الموالية للمنظومة الحاكمة، ولم يدع مجالا لأحزاب وتنظيمات تعددت مشاربها، من اختراق الحراك الشعبي، أو ركوب موجته المتحركة بإرادة لا تقبل التراجع.

رؤية أثارت إعجاب البعثات الدبلوماسية، وهي تنقل مجريات الأحداث إلى دولها، في تقاريرها السياسية الدورية، فقد وصف لي دبلوماسيٌّ عربي أن التغيير الذي تشهده الجزائر، أرسى قواعد عمل سياسي جديد سيعم العالم الثالث برمته، حين اعتمد الشعب الأدوات السلمية في مواجهة منظومة حاكمة، عجزت عن تلبية طموحاته، مستبعدا كل أشكال العنف والتخريب التي نراها في بلدان تشهد الأزمات والحروب الداخلية.

أين ترى بلدا يساق فيه كبار المسؤولين الحكوميين إلى السجن، ووراءهم أحزاب متنفذة، مازالت بقايا خلاياهم في أهمِّ مؤسسات الدولة، ولم يشهد اضطرابا أو ردود أفعال أمنية، كما رأيناه في بلدان أخرى فشلت في بلوغ الأهداف التي انتفضت من أجلها؟

تساؤلاتٌ أثارها دبلوماسيون في الجزائر، وهم يتابعون مجريات الأحداث، في ملتقياتهم، وهم يشيدون بالاستقرار الأمني الذي لم يمنعهم من أداء مهامِّهم، ولم يشلّ حركاتهم وتنقلاتهم، وهم الآمنون على سلامة رعاياهم.
رأى دبلوماسيٌّ أوروبي أن أبرز علامات الارتياح في الجزائر، رغم الحراك الشعبي المتواصل، هي الإبقاء على أبواب المراكز الثقافية الأجنبية مفتوحة، وتقديم برامجها من دون انقطاع، مستشهدا بحضور عرض فني إيطالي قدِّم من روما، رفقة جمهور جزائري ذواق، أضفى أجواء من السحر الموسيقي.

كادت بعض البعثات الدبلوماسية تخطئ في تقييمها للحَراك الشعبي حين اعتقدت إنه لن يستمر طويلا، وسيسجِّل تراجعا مع دخول المواسم الدينية، والانشغال بترتيب الاستعداد لها، والتفرُّغ لطقوسها الإيمانية، مما يتيح للمنظومة السياسية إعادة تنظيم أوضاعها وضمان بقائها، إيمانا منها إن من يمتلك مقاليد السلطة لن يسلِّمها بسهولة أمام ثورة غضب شعبي سرعان ما يهدأ!

لكنها سرعان ما تحاشت هذا الخطأ، إذ رأت شعبا يتملكه الإصرار على مواصلة مسيرته الشعبية، ملبِّيا طقوسَه الدينية، ملتزما بحقه في الحياة، مؤدِّيا بأمانة دوره الوطني.

دبلوماسيون رفيعو المستوى، عبَّروا عن دهشتهم في حوارات خاصة، عن استمرار الحياة اليومية الطبيعية، التي لم تتأثر بمجريات الأحداث التي تشهدها الجزائر، بشكل ليس له مثيلٌ في العالم؛ فمؤسسات الدولة تباشر عملها دون توقف، وأبوابها مفتوحة أمام المواطنين الذين ينعمون بالخدمات والأمن والاستقرار في عيشهم وتنقلاتهم، وهم يجسِّدون أعلى درجات الوعي في أدائهم لواجباتهم الوطنية ومطالبهم بالحقوق المشروعة في حراك شعبي سلمي بدأت أهدافه تتحقق بمسارات عقلانية مرنة، لا تترك وراءها أيّ خسائر تذكر.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!