-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
قدمت ثالث تجاربها الإبداعية في "كمكان لا يعول عليه".. نوارة لحرش:

الرواية لا تستفزني والهرولة لا تعنيني والوفاء للشعر هو فن الحياة

زهية منصر
  • 1025
  • 0
الرواية لا تستفزني والهرولة لا تعنيني والوفاء للشعر هو فن الحياة
ح.م
نوارة لحرش

منذ مجموعتها الأولى “نوافذ الوجع” أبانت نوارة لحرش عن أسلوبها في التعامل مع الشعر بصفته رديف الحياة وليس مجرد ترف يمكن طرحه جانبا، وفي نفس النهج تواصل صاحبة “أوقات محجوزة للبرد” نحت معاني قصائدها من شوارع الحياة وهي تقدم ثالث تجاربها الشعرية في “كمكان لا يعول عليه” تؤكد أن الوفاء للشعر هو ببساطة فن الوفاء للحياة وفي نفس الوقت طريقة لمقاومة الجدوى.

العنوان مستفز ايجابيا وفيه إيحاء بمعارضة ابن عربي “المكان الّذي لا يؤنث لا يعوّل عليه” يقول هو. هل هذا يعني أنّك غير راضية عن مكان التأنيث في هذا العالم؟

أبدا، كيف أعارض ابن عربي في مقولته النبيلة، المُنتصرة لتأنيث الأمكنة والعالم والعوالم. “المكان الّذي لا يؤنث لا يعوّل عليه”، والإنسان الّذي يعارض ابن عربي في مقولته هذه تحديدا هو إنسان لا يعوّل عليه.
فقط أخبرك أمرا، وأنا أكتب نصوص هذه المجموعة، لم يخطر ببالي أبدًا، لا ابن عربي ولا مقولته. لكن بعد أن فرغت من كتابة النصوص، وصلت إلى محطة “العنوان”، واِحترت حقًا في اختيار عنوان مناسب، حتى أنّ الغلاف تمّ تصميمه بالعنوان الأوّل الذي اخترته حينها، لكن حين وصلني الغلاف من المُصمم، بقيت لبعض الوقت أتأمّل في العنوان لا الغلاف. ما جعلني أعيد خلق واختيار أكثر من 5 عناوين أخرى. كنتُ منحازة لها تقريبا وبنفس القدر.. وهذا ما أربكني، فما كان مني إلاّ أن أرسلت العناوين إلى 3 من الأصدقاء، ليختاروا معي، فكان شبه الإجماع على “كمكان لا يعوّل عليه”، وتمّت مباركته واعتماده في الأخير كعنوان نهائي للمجموعة. والعنوان تجدينه في السطر الأخير من نص بعنوان “مأدبة متأخرة”.
ابن عربي في مقولته انتصر للمكان الّذي يؤنث، لأنّه يعوّل عليه. أمّا نصوص المجموعة فكلّها أو في أغلبها كانت تتمحوّر حول الحياة غير المُعوّل عليها. أعترف أنّ كمٌ كبير من السوداوية في هذا الكِتاب. يمكن القول إنّ تيمة هذه النصوص هي “الحياة غير المعوّل عليها” وأنّ هذه الحياة كانت يتيمة الأمل والجدوى. فالمكان في النهاية وفي خلاصة النصوص ما هو إلاّ حياة مقصية من الحياة. حياة مخذولة ومُهملة، ومركونة في زوايا اللاجدوى، ومُنكل بها بتراجيدية أحيانًا غير متوقعة، لدرجة تصير فيها “الحياة جورب قصير”. أو “جورب قديم، لا يكفي خيط رفيع لترقيعه”، أو “جورب مثقوب بتعاسة الكائنات”.
نصوص المجموعة كانت تُوشوش بصوت مبحوح: “الحياة مكان لا يعوّل عليه”. كانت بشكلٍ ما تنكلُ بالحياة. الأمر مُؤلم، لكنّها بشكل ما كانت تنكلُ بالحياة. هل يحقُ للنصوص مثلا أن تُــنكل بالحياة لأنّ الحياة في فترات ما نكلت بالإنسان أو بروحه وأحلامه وحتى بوجوده. هي فلسفة حالة. تحتاج إلى تصفية حسابات باللّغة، بالفن، بالمعنى. بالشِّعر، بالكتابة.
أثناء مراجعة نصوص المجموعة، لم أستطع مراجعتها بنوع من الحياد الضروري. (كانت المُراجعة قاسية. أترك شرح الموضوع إلى فرصة لاحقة)، فقط يكفي أن أقول: كنتُ أحتاج إلى وقت مستقطع من أجل أن أعود إلى مراجعتها بألم أقل.

على مستوى اللّغة هناك تركيز على المعنى والعوالم الصوفيّة. لماذا هذا المنحى؟

المعنى هو ميراث اللّغة، ميراث الشّعر، ميراث عوالم الفن والأخيلة، هو ثمار وأشجار وينابيع الأدب والشّعر تحديدا. إذ كنتِ حقًا لاحظتِ أنّ على مستوى اللّغة هناك تركيز على المعنى. فهذا يعني أنّ اللّغة بشكل ما أو بنبرة ما وصلت، وصلت وهي مؤثثة أو وهي مغرورقة بالمعنى. المعنى الّذي في النهاية روح الشّعر ودهشته وابتكاراته وإرباكاته الجميلة في آن.
أمّا عن العوالم الصوفيّة التي تتحدثين عنها في نصوص المجموعة، صدقيني لم أنتبه إلى منسوب الصوفيّة فيها ولا إلى منسوب السريالية. هل حقا هناك صوفيّة؟ وهل حقا تجلّت صوفية، أو بعض نفحاتها في نصوصه؟ صدقيني لا أدري. تعرفين أكيد، أنّ الّذي داخل الحالة غير الّذي خارج الحالة. إذ من الصعب أن يرى الكاتب حالته بشكل جلي أثناء الكتابة، لكن من السهل ربّما أن يراها القارئ أو الناقد.
فالّذي يُرفرف بحدقته، غير الّذي ينظر بحدقته. أجل، كنتُ داخل الحالة، ولم أكن خارجها. لو كنتُ خارجها أثناء الكتابة لربّما انتبهت إلى ما تقولين.

لماذا الإصرار على الوفاء للشّعر في زمن يُقال إنّه زمن الرواية؟

الوفاء للشّعر هو بمثابة وفاء لمشروع فن وحياة. الشّعر. يسحق منّا الوفاء. كيف لا نبادله الوفاء وهو الّذي واسانا وآوانا وربّت على جروحنا في وقت خذلتنا الحياة وأربكتنا في ممراتها المنذورة للقسوة والخيبات. على المستوى الشخصيّ لم يكن الشّعر يومًا ترفًا يمكن استبداله بترف آخر. لم يكن محطة عبور من جنس أدبي إلى آخر.. الشّعر كان ملاذا ووطنا وأهلاً وسماء، كان مشروع فن وحياة. هو الّذي رمّم الكثير من الخرابات وصار أكثر من مرّة عكازا يُعينُ ويساعد على احتمال فداحة الواقع وتعديل العرج الّذي يصيب مشية الحياة فينا وبنا. الشّعر أكثر أنواع الكتابة حضورا في كلّ أنواع الأدب والفن والمسرح وغيرها من الفنون، فكيف لا يظل الشاعر وفيًا له؟.
أعترف أنّ الكثير من الأصدقاء، يحرّضونني على كتابة الرّواية. منهم صديق روائي قال لي مؤخرا “لماذا لا تكتبين الرّواية، أكتبي، جربي. فيك الكثير من بذورها”، وصديقة ناقدة أيضا قالت لي: “لماذا لا تكتبين الرّواية، كلّ الشعراء كتبوا روايات إلاّ أنتِ”. لكن كان ردّي دائما: “ليس الآن. ربّما سيأتي أوان الرّواية لاحقا. ربّما بعد سنوات. لكن حتمًا ليس الآن وليس في القريب”.
أعتقد أنّ الشّعر، أو كتابة الشّعر، مشروع جمال وفنّ ولغة، يحتاج منّا الوفاء أكثر وليس التسرّب أو النزوح إلى الرّواية، فقط لأنّ الرّواية رائجة مثلا ولها حضور في محافل التتويجات والجوائز أو لها حظوة في مرايا النقد.
أرى أنّ مشروعي الشّعري الصغير يحتاج مني أن أظل وفيةً للشّعر وأن أنتصر له حتى الرمق الأخير.. تأتي الرّواية لاحقا أو لا تأتي. لا يهم. المهمّ أن يظلّ الشّعر كما كان شجرا آهلاً بثمار الرّوح والفن واللّغة والحياة.. الرّواية لها ناسها.. وعلى الشّعر أن ينتصر له ناسه أيضا، وهذا بالوفاء له قدر ما أمكن ذلك.
يقول الشاعر اللبناني زاهي وهبي “يجب أن نتعلم كيف نكون أوفياء للحياة”، وبالموازاة أقول: “يجب أيضا أن نتعلم كيف نكون أوفياء للشّعر”. الشِّعر الّذي طرقنا ويطرقنا والّذي نشعر معه أنّ الحياة هي التي تطرقنا، يجب أن نكون وأن نظلّ أوفياء له.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!