-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

السياق الفلسفي للسلام والسياق التشريعي السياسي

عمار الطالبي
  • 143
  • 2
السياق الفلسفي للسلام والسياق التشريعي السياسي
ح.م

استند الفلاسفة المسلمون إلى ما يمكن أن نسميه الدليل الوجودي، بالإضافة إلى كون الوجود بالفعل كمال بالنسبة للوجود بالقوة، فإن الوجود المجرد عندهم خير محض Summum bonum، فإن كل الأشياء الموجودة تشارك في هذا الوجود الخيري، من حيث أن الله تعالى واجب الوجود بذاته، وبماهيته، كل الكمال الأقصى يرجع إليه، وتبعا لابن سينا فإن الشر ليس له ماهية دائمة، ويبدو فقط في عدم وجود الخير.

إذ أن كل وجود ضروري واجب بذاته هو خير محض، وكمال خالص، إذ الخير هو ما يرغب فيه، فالوجود خير خالص، وكمال الوجود هو خير الوجود، عندما يكون خاليا من العدم، والوجود الممكن في حد ذاته ليس خيرا خالصا، لأن وجوده ليس ضروريا بذاته، (ابن سينا، كتاب النجاة، تحقيق ماجد فخري، بيروت، دار الآفاق الجديدة 1985، ص265).

ويستدل مُلاّ صدرا بأن لا ينظر إلى الخير والشر على أنهما متضادان لأن أحدهما “لا وجود” بالنسبة للآخر، ومن ثم فإن الخير وجود، أو كمال وجود، وأما الشر فهو غياب الوجود أو عدم وجود كمال الوجود (ملا صدرا الأسفار الأربعة 11، ص113).

ويعتبر الفلاسفة الإسلاميون وخاصة الفارابي الجهاد حربا عادلة، وكذلك مذهب ابن رشد فإن الحرب العادلة قائمة على الدعوة والإقناع.

أما السياق السياسي-التشريعي فإن قواعد الشريعة المتعلقة بالسلام، والحرب، والجهاد، والأقليات الدينية، والتقسيم الديني-السياسي إلى دار الإسلام، ودار الحرب، وما إلى ذلك يكوّن جزءا مهما من القانون الإسلامي للأمم، فإن النصوص وتأويل التاريخ يمثل تحدّيا ذا دلالة لعلماء الإسلام المحدثين من جهة وللمسلمين أنفسهم عامة من جهة أخرى.

إذا رجعنا إلى القرن الثاني الهجري، وما بعده فإننا نجد اتجاها تشريعيا لوضع فقه أو قواعد قام بها بعض الفقهاء برؤية سلفية يمكن تطبيقها في كل مكان وزمان، في حين أنه من المسلّم به أن القانون الإسلامي يؤسسه القرآن والسنة، وأن الشريعة باعتبارها قانونا مبنيةٌ بطريقة تسمح بحرية للعلماء والجماعات أن يكيفوا أنفسهم لمختلف الأزمنة والظروف بالاجتهاد.

إن الجيل الأول من الفقهاء والمفسرين والمحدثين ساروا على هذه الطريقة لذلك ظهرت عدة مدارس فقهية، وعدة آراء قانونية، فهذا التكيف في طبيعة الشريعة الإسلامية أدركه الأجانب أنفسهم الذين درسوا تاريخ التشريع الإسلامي من الغربيين، كما فهمه العلماء المسلمون في العالم الإسلامي.

وعند تحليل أوجه التشريع-السياسي للفقهاء القدماء والقواعد التي وضعوها فيما يتعلق بالحرب والسلام، فإن الباحث إبراهيم كلن اقتصر على ثلاث مسائل متشابكة: الأولى حق المجتمع الإسلامي أن يدافع عن نفسه ضد العدوان الداخلي والخارجي، وكيف انتقلت الجماعة الإسلامية الأولى من المسالمة في مكة وعدم رد العدوان، والصبر عليه إلى النشاط الدفاعي في المدينة، وهذه المسألة تبرز بالضرورة مسألة الجهاد باعتباره حربا دفاعية أو هجومية وعلاقته بما يسمى بالحرب العادلة: Jus ad Bellum في التقاليد الغربية.

والمسألة الثانية هي السياق السياسي للتشريع لدى بعض الفقهاء، وخاصة الإمام الشافعي، والفقيه الحنفي السرخسي، فيما يتعلق بشرعية التوسع في فتح الدول على أساس ديني، بمعنى أنه يجوز شن حرب ضد أراضي لغير المسلمين على أساس النظام العقدي.

والمسألة الثانية هي معاملة الأقليات غير المسلمة التي تسمى أهل الذمة، تحت سلطة القانون الإسلامي، وكيف تعامل الدولة الإسلامية تعدد الديانات والثقافات في إطار المجتمع المسلم.

أما المسألة الأولى فقد كان همّ الرسول صلى الله عليه وسلم الأول في مكة أن يضمن أمن الجماعة الإسلامية المؤمنة الناشئة، باعتبارها وحدة دينية سياسية، ولما كثُر الاضطهاد والتعذيب أدى ذلك إلى تلك الهجرة التاريخية التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابُه إلى المدينة في سنة 622 ميلادي، بعد ذلك الاضطهاد الذي كاد يُغتال فيه الرسول نفسه، صلى الله عليه وسلم. وخلال تلك الفترة كان حق الجماعة المسلمة أن تدافع عن نفسها ضد مشركي مكة وطغاتها سلميا، لا عنف فيه، وهي وسيلة للمقاومة السلمية كما تُسمى اليوم، بالرغم من أن الرسول كان في علاقة متصلة مع قادة مكة، لنشر دعوته، وحماية فئة المؤمنين به، ولم تجد مفاوضته في رد سياسة المكيين ضد نمو الجماعة المسلمة، وتم الانتقال من المسالمة في مكة إلى النشاط السياسي في المدينة، لما جاء الوحي بالإذن بالقتال في السنة الأولى من الهجرة في قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّـهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌالحج/38-40.

فهذه الآيات ومثيلاتها في سورة البقرة 90-93 تبين بوضوح الأسباب التي جعلت المسلمين يحملون السلاح، ويجاهدون من أجل الدفاع عن أنفسهم وعن الحريات الدينية، وضعت شروط الحرب العادلة (Jus ad Bellum) للدفاع عن النفس، وأشارت الآيات إلى هذه الأسباب من تهجير المسلمين من ديارهم، وأخذ أموالهم، بسبب اعتقادهم هذا الدين الجديد وعدم حريتهم في دينهم، وكان هذا نقطة تحول في تاريخ الدعوة الإسلامية في حماية أنفسهم ضد مشركي مكة، وتبع ذلك معارك بين المسلمين ومشركي مكة من بدر إلى غزوة الخندق، إلى أن انتصر المسلمون وفتحوا مكة، واستمر القتال بشروطه ومبادئه الإسلامية من حرية الدين، والتضامن الجمعي، والوحدة السياسية بالإضافة إلى وضع شروط وأسباب الحرب العادلة أو الجهاد، فإن هذه الآيات السابقة من سورة الحج وضعت الحريات الدينية سببا عاما للدفاع عن حرية الديانات الإبراهيمية الثلاث، حين ذكرت البِيَع والكنائس والمساجد والأديرة التي يُعبد فيها الله ويُذكر فيها اسمه، فهذا الاتجاه نحو الدفاع عن حرية الأديان، وكل الجماعات الدينية، كان عاملا ومبدأ ثابتا، عامل به الرسول صلى الله عليه وسلم الجماعات الدينية غير المسلمة، ووقّع عددا من المعاهدات مع اليهود، والمسيحيين، والزرادشتيين في الجزيرة العربية، وقد ذكر أبو يوسف صاحب أبي حنيفة عددا من الأحاديث التي توجب معاملة الأقليات الدينية بالعدل والمساواة، ويشمل ذلك الصائبة، والزرداشتيين أو المجوس، واستدل على ذلك بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر في البحرين، (انظر كتاب الخراج لأبي يوسف).

إن القول بالجهاد المسلح لتوسيع حدود دار الإسلام في أراضي غير المسلمين على أساس نظامهم العقدي، قد ذهب إليه بعض الفقهاء في القرن الثالث والرابع الهجريين، ومن هؤلاء الإمام الشافعي والسرخسي اللذين أوّلا الجهاد بأنه من واجبُ الحاكم المسلم أن يقاتل ضد الأرض التي تعرف بأنها: “أرض حرب”.

وصاغ الشافعي نظريته التوسعية الجهادية على أنها واجبٌ ديني، في ذلك العهد الذي كانت الدول الإسلامية فيه عملت على تمديد الصراع العسكري مع البلدان غير الإسلامية، وأجاز هؤلاء الفقهاء قتال غير المسلمين وبرروا ذلك بسبب أنهم غير مسلمين، لا أنه دفاعٌ عن النفس ضدّ العدوان الذي هو أصل تشريع الجهاد مع مراعاة شروطه من عدم التعرض للأطفال والنساء والمدنيين عامة ممن لا يشارك في القتال.

ولكن ينبغي التنبيه إلى أن نظرية الشافعي ومن ذهب مذهبه مثل السرخسي، لا يمثلون جمهور الفقهاء، بخلاف ما ذهب إليه أبو حنيفة، والإمام مالك وأبو يوسف، والشيباني، والأوزاعي، وابن رشد، وابن تيمية، وتلميذه ابن قيّم الجوزية، وآخرون وهو ما ذهب إليه الفلاسفة السياسيون، والمتكلمون الذين اتخذوا موقفا آخر، ولذلك سمى بعض الفقهاء الأرض غير الإسلامية بدار العهد، أو دار الصلح لا بدار الحرب.

وطوال القرنين الحادي عشر، والثاني عشر، وما بعدهما حينما واجهت الدول الإسلامية حقائق سياسية جديدة، وهي الحروب والانتصارات في كامل قوتها في السياق السياسي الثقافي، والذهاب إلى القول بدار الصلح ليس شيئا جديدا تمام الجدة، بل يمكن أن يجد هذا المفهوم جذوره في الاتفاقيات، والعهود التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران، عندما كان في المدينة، وقد حفظ نص هذه المعاهدة التي يجوز أن تكون أساسا لوضع السِّلم مع غير المسلمين من الجماعات الدينية الأخرى، بالإضافة إلى سياسة منح الأمان لحماية غير المسلمين المقيمين أو المسافرين في الأراضي الإسلامية، فقد كان هذا تطبيقا مشتركا، ويسمى هؤلاء بالمستأمَنين، ولا يشمل هذا رؤساء الدول، أو العلماء فقط، وإنما يشمل الأفراد من الرجال والنساء.

ومن ناحية أخرى، فإن فكرة ضم العالم تحت سلطة دار الإسلام عن الطريق العسكري، والتوسع ينبغي أن يُنظر إليه في السياق الجيو سياسي Geo-Politicial والظروف في العالم الإسلامي قديما، فإن النظام الإمبراطوري العالمي في العصور الوسطى الذي كان العالم الإسلامي جزءا منه كان قائما على فكرة التوسع المتواصل لحدود الدول، لأن هذا الفتح يوفر الاقتصاد، والاستقرار السياسي والديمغرافي، ولذا كما قال حتّي في كتابه “تاريخ العرب”، فإن المسلمين الذين فتحوا الأقاليم الشمالية ليس قائما على أساس الدين الإسلامي، ولكن هي الدولة الإسلامية، فقد كانت عربية ولم تكن محمّدية في انتصارها الأول، وكذلك دوزي Dozi في كتابه Essai sur l’histoire de l’Islamisme فإن الحرب في نظره لم تُعلن وتُفرض إلا بعد أن اعتدى أعداء الإسلام عليهم، إن استبعدنا تأويل بعض الفقهاء لبعض النصوص.

في هذا العالم الذي أصبح الحاكم فيه إما يكون غازيا أو مغزوّا، فانتصار الدول الإسلامية يتوقف على توسُّع أراضيهم ضد من يجاورهم من المسلمين وغير المسلمين من الأعداء، وسير تاريخ الجيوش الإسلامية في الدخول في أراضي غير المسلمين ليس جهادا بالمعنى الديني، ولكن هو غلبة صراع القوة بين كل المؤسسات مسلمة أو غير مسلمة، التي أصبحت موضوعا للصراع، والغزو على أساس سياسي في السياق العالمي.

وهذا يجعلنا ندرك بوضوح أن عملية التوسُّع في الحدود، والفتح العسكري ليس بالضرورة يعنى فرض الاعتقاد، بدءا من أول تاريخ الإسلام، فإن اعتناقه كان عن طريق الإقناع والدعوة وغيرها من الوسائل السلمية، فإنه ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِالبقرة/256، ولا فرضه بالقوة على القلوب لا من قِبل العلماء ولا من قِبل الحكام.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • خليفة

    الاسلام لا يقر الظلم و لا العدوان على حقوق الغير،و لكن اذا وقع الظلم على المسلمين و تم اغتصاب اراضيهم و تشريد اهلها ،فهنا يكون الجهاد مطلوب لرفع الظلم و استعادة الارض المغتصبة .

  • شخص

    لا سلام مع من يعتصب الأرض و يشرّد الشعب و يجرف الأراضي ؟ هذا يسمى ذلاً !