-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

السُّنَنِية بين النصّ القرآني والواقع الإسلامي

السُّنَنِية بين النصّ القرآني والواقع الإسلامي
ح.م

نتباهى نحن المسلمين، في خطابنا المسجدي والفكري والإعلامي، بأننا أمة سننية، ويهرع بعضنا إلى حشد النصوص القرآنية الدالة على ذلك.. ولكن الحقيقة أن هناك بونا شاسعا بين السننية الحقيقية التي يرشد إليها النص القرآني والسننية المزعومة التي يدل عليها الواقع الإسلامي.

فصل مالك بن نبي– رحمه الله- في هذه المسألة وما يترتب عليها من مفارقات، وذلك في معرض تحليله للظاهرة الحضارية وموقع المسلمين منها، إذ وضع كثيرا من القواعد التي يقاس بموجبها المؤشر الحضاري وفي مقدمتها قاعدة التغيير النفسي من أجل التغيير المجتمعي تأسيسا على قول الله تعالى: “إنَّ الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم”. وقد استنبط ابن نبي من هذه الآية القرآنية قاعدة سننية يرتبط بها صعود وسقوط الحضارات، عبر عنها بقوله: “غيِّر نفسك تُغيِّر التاريخ”.

لا أريد في هذا المقال الحديث عن فكرة التغيير الحضاري عند مالك بن نبي، وإنما أريد عقد مقارنة مختصرة بين السننية في النص القرآني والسننية في الواقع الإسلامي، ويكفي لبيان هذه المفارقة سوْق بعض الأمثلة على النحو الآتي:

يقول الله سبحانه وتعالى: “ولقد كتبنا في الزَّبور من بعد الذّكر أنَّ الأرض يرثها عبادي الصالحون”. إن وراثة الأرض كما يرشد إليها النص القرآني لا تتحقق في النهاية إلا للعنصر الصالح، ولكنّ الصلاح هنا لا يقتصر على الصلاح النفسي بل يتعداه إلى الصلاح الحضاري، أي أن يكون العنصر الصالح صالحا لإدارة الحياة وقيادة الحضارة ومؤهَّلا للتعبير عن الطاقة الخيرية والإيجابية التي أودعها الله- سبحانه وتعالى- في النفس الإنسانية من أجل بناء الإنسان كغاية أساسية، ثم بناء العمران كغاية تبعية.

ليس من ركائز الإيمان ولا من الإسلام أن يتقدم المسلمون على المستوى الديني ويتأخروا على المستوى الدنيوي، فهم إن لم يراعوا هذه الثنائية الحتمية تحولوا إلى عنصر بشري سلبي غير صالح لأداء وظيفة الاستخلاف، فامتلاك قوة الإيمان والقدرة على بناء الإنسان وإقامة العمران كلها قيم حضارية لا غنى عنها لتجسيد فكرة السننية، وفي غيابها يتحول الخطاب السنني إلى ظاهرة صوتية ونبرة خطابية لا أقل من ذلك ولا أكثر. من المفارقة أن تجد لبعضنا دراسات ومؤسسات حول السننية الحضارية، ولكن كلهم أو جلهم قضوا ردحا من الزمن يعِدوننا بما يسمونه البعث أو الانطلاق الحضاري من غير أن نجد لهذا  تأكيدا وتجسيدا في الواقع. ليس من التشاؤم القول إننا نحن المسلمين متأخرون في فقه الحياة وفقه الاقتصاد وفقه الاجتماع، ومن ثمّ فإنه لا يحق لنا أخلاقيا الزعم بأننا أمة سننية، فقد ارتكسنا إلى ذيل الترتيب الحضاري بعد أن كنا رواد الحضارة قروناً طويلة كما تشهد بذلك المستشرقة الألمانية “زيغريد هونكه” في كتابها “شمس العرب تسطع على الغرب”.

يقول الله سبحانه وتعالى: “إنَّ الله لا يغيِّر ما بقوم حتَّى يغيِّروا ما بأنفسهم”. إنّ آلة التغيير قد توقفت في المجتمع الإسلامي منذ أن توقفت آلة التعمير، وأضحى الواقع الإسلامي واقعا نمطيا ليس فيه ما يدعو إلى الأمل في تغيير وشيك على المدى المنظور، ولكن رغم ذلك تجد من يلبس على الأمة ويستخفّها ويضلّلها ويمنِّيها بـ”عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون”، وهو موقن في قرارة نفسه بأنها أمان كاذبة لا يصدقها إلا  الحمقى والمغفلون. من المفارقة أن تجد بين نخبنا من يتشدّق بكلمات فضفاضة عن فلسفة التغيير ونحن نعلم بأنها كذب لا غير. لقد فقه الماليزيون سنة التغيير فصحّحوا مسارهم الاجتماعي وحسَّنوا وضعهم الاقتصادي وقفزوا بقيادة مؤسس ماليزيا الحديثة “مهاتير محمد” إلى  مصاف الدول المصنعة، ولكن بقي في المقابل عدد لا يستهان به من الشعوب والدول العربية والإسلامية يراوح مكانه، باقيا على ختم الله لا يعرف للتغيير سبيلا. من المؤسف أن تظلّ فلسفة التغيير في الوطن العربي والإسلامي فلسفة عقيمة تجعل يومنا كأمسنا لا جديد في واقعنا إلا  تعاقب الليل والنهار.

تخلّى المسلمون عن سنَّة الغلبة ورضوا بأن يبقوا أمة مستعبَدة مضطهَدة، مع أن القرآن الكريم يحضّهم على إعداد القوة لحماية بيضتهم وتحقيق أمنهم القومي. يقول الله سبحانه وتعالى: “وأعدُّوا لهم ما استطعم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم”. لقد عبّر الشيخ محمد عبده عن هذا الواقع الإسلامي بقوله: “ذهبتُ إلى الغرب فرأيت ألف أسطول مع أن دينهم يقول: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، وجئت إلى بلاد المسلمين فوجدت ألف مسطول مع أن دينهم يقول: ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم))، فشتان بين أمة الأساطيل وأمة المساطيل”.

من مقتضيات السننية الاهتمام بالمنظومة التربوية، لأن هذه الأخيرة هي بارومتر النهضة الحضارية، ولكن الواقع أن المفتونين بفلسفة السننية لم يقدِّموا لهذه المنظومة شيئا يستحقُّ التنويه، بل على العكس من ذلك مثَّلوا ولبّسوا على الأمة وميَّع بعضهم ما استطاعوا من قيمنا التربوية. في مجتمعنا الإسلامي نخبٌ كثيرة متميزة، ولكن الرداءة التي سرت أفقيا وعموديا وفي الأخضرواليابس وبمعدَّلات رهيبة جعلت هذه النخب تتوارى وتنتظر وتتحيَّن الفرصة للعودة من جديد، عند عودة من يقدِّر الفكر الراشد ويثمِّن العبقريات والكفاءات.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
9
  • كن يقظا

    الى المعلق الراابع : الاستعمار وخلفه

  • شرقية خالد

    الموضوع جلي لكن التحليل فيه تلاعب
    عند التشخيص يقول الكاتب: الأمة، الشعب، الجماعة، المسلمون، ويذكر كل العيوب، وهذا صحيح، لا نقاش فيه.
    لكن عند الاتيان بالحل يذكر ماليزيا والتي نجحت على يد "مهاتير محمد"، ومن تابع حوار مهاتير مع أحمد منصور يجده يحكي كيف أخرج ماليزيا إلى طريق النجاح بأفكاره الفردية لما كانت سائرة نحو التخلف، نفس الشيء، تركيا العلمانية سابقا لم تنجح، ولكنها نجحت على يد رجل ذي توجه إلسلامي في 10 سنوات!يعني الحل في يد الحاكم.
    لكنك تجلد الشعب فقط ولا تشير للحاكم! هذا ما جعلني أندهش! كيف تنتظر من القطيع أن يقود الراعي؟ والعكس هو الواجب؟
    لقد ابتلينا بعاهات فالحل لن يكون قريبا.

  • TAREK

    كاتب المقال على غرار غيره من العامة يفهمون سنة الاستخلاف الرباني للبشرية في هذا الكون فهما منكوسا. فهل ماليزيا التي ضربت المثل بها حققت فعلا ما استخلف لأجله البشر. كلا ورب العزة. لا يمكن إطلاقا أن تفهم العلاقة بين الدين والحضارة الدنيوية كما تريد. أو أن تجعل تلك الجدلية مسلمة فلسفية. فالإسلام حدد ذلك ووضحه بشكل يفهمه الجميع خاصة الناس وعامتهم. ولا يعدو أن تكون الجدلية سالفة الذكر مفسرة بنصوص قرآنية وآثار نبوية بسيطة الفهم. قال تعالى: (إن تنصروا الله ينصركم). قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف...) وغيرها من النصوص والآثار. الدين يؤخذ بشمولية لا تأخذ منه وتدع بحسب ما هواك.

  • نحن هنا

    كل الناس تعرف الحق لكنها لاتصدع به وإنماتحوم حوله , والسبب هوأن للدولة دين وللشعب دين فإذا أراد المسلمون الخروج من النفق فليكون دينهم واحد

  • مصطفى اولداش

    لقد استثنيت من بين الدول التي لم تأخذ بالسننية ماليزيا. فعلا لقد قطعت هذه الدولة الاسلامية اشواطا جعلتها تتفوق على الركب ويمكن إضافة تركيا وايران التي قطعت بدورها اشواطا في النمو والاقتصاد والتعليم. الملفت للانتباه أنه لم تبرز إلى حد الان اي دولة عربية تحمر الوجه وتوحي بالامل.

  • دوادي بوروايح

    يا ابن العم, لا تنسى في تحليلك الاستعمار المستمر بالاستبداد و منع طاقات راشدة توجه الى التغييرات اللازمة.

  • جلال

    نتيجةا التخدير المشايخي صار المسلم لا يسأل عن هل هذا الشئ خطأ أو صواب ؟ أو جيد أو ردئ ؟ أو حق أو باطل؟ نافع أو ضار؟ وإنما عن هل هذا حلال أم حرام؟ وأصبحت كل نعم الله مشكوك فيها وفي حلاليتها وكيف لنا أن نلحق بالعالم وقد جمدنا عقولنا وتفكيرنا وخنا أعظم موهبة فينا :الفكر والحرية
    لقد غيبونا عن ساحة الفعل الإنساني عن طريق الإرهاب الفكري والمادي ومصادرة العقول وما يسمى بالصحوة ماهى الا غفلة ليس لها أثر في الفكر وتغيير المفاهيم وترك المفاهيم التي عاشت ضمن فترات زائلة

  • جلال

    لقد انهزمنا حين سيطر النقل على العقل والإستبداد على الشورى وقول السلف على الخلف والسنة على القرآن واصبح لنا وحيان وهجرنا القرآن وصار لنا مشايخ وكهنة ورهبانية في الإسلام (القول في الدين عندهم إثم كبير يعرض صاحبه للتكفير فإذا تجرأ أحد وخطر له رأي ما في أمر سواء أصاب أو اخطأ تصدى له حراس الشريعة بالويل والثبور وحرموه من الجنة وادخلوه في النار وكأنهم ظل الله في الأرض) وجمدوا وحنطوا الإسلام في الزمان والمكان واتوا بتفسيرات ما أنزل الله بها من سلطان وخلطوا السياسة بالدين والدين بالسياسة وطمسوا عالمية الرسالة المحمدية ومعنى الإستخلاف في الأرض

  • جلال

    لقد فهم المسلمون الأوائل دينهم على ضوء ما وجدوه من فلسفات نظرية وافدة واساطير وخرافات عن الخلق والكون في أمم سبقتهم في هذا المجال واصبحت من الدين أو اعطت تفسيرات وترهات باطلة للدين وتركوا البحث في العلم المادي الذي أمرهم الله به (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) لكان خيرا لهم وانفع لما استكانوا ووهنوا إن العالم لا يعتبر عالما الا إذا كانت له بعض الإحاطة بعلوم ومعارف الكون ( إنما يخشى الله من عباده العلماء) أي علماء بالحياة والأحياء إن التمكن من الدنيا أمر لا بد منه للتمكن للدين
    إن التقوى هى أن تملك الدنيا لا أن تهجرها أو تحتقرها