-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
مهنة تداعب الآذان والعيون في قسنطينة

الشوارع العتيقة.. وموسيقى النقش على النحاس

صالح عزوز
  • 1124
  • 0

.. وأنت تتجول في الشوارع العتيقة لمدينة قسنطينة، يدفعك الفضول للبحث عن مصدر صوت الطرق على الحديد، أصوات ترجعك عبر بوابة الزمن، إلى عصور مضت، حين كانت الكثير من الأدوات تصنع بصهر الحديد وطرقه، لكنك على بعد خطوات، تكتشف أنها أصوات النقش على النحاس، حرفة سارت عبر العصور، ومازالت تصارع فوضى التكنولوجيا التي أصبحت تعنّف كل ما هو عتيق، وسرقت منها بهاءها في أدوات جديدة، لكن بفضل إصرار جيل هرم من أجلها، استطاعت هذه الحرفة أن تحافظ على أناقتها وجمالها إلى حد الساعة، وبقيت منتصبة القامة رغم كل التغيرات.
كغيرنا من الفضوليين الذين جلبهم صوت الطرق على الحديد، تجولنا في هذا العالم الذي تضيئه صفائح براقة تمتع الناظرين إليها، يتبعثر نظرك بين الكثير من التحف التي تزين هذا المكان الضيق، بعديد المنحوتات من كل الأشكال والأحجام، لتجد نفسك في الأخير، حيران من أي قنينة تكتحل عيناك، فكلها تحمل تفاصيل دقيقة فاتنة تطرب السمع والبصر معا، صفائح كانت عذراء، لكنها أنجبت بعد فترة من الزمن لوحات فنية، خرجت للوجود، كحال جنين صغير يلاقي العالم بصيحة قوية، لكنها دليل على الحياة، فبعد هذه الأصوات المتتابعة التي لا تنقطع لساعات طويلة، كأنها أوكسجين يضخ فيها الحياة، تخرج علينا في الأخير، وهي تغازل الأعين بحسن مظهرها، يتهافت عليها الزوار من كل مكان، ينحني الصانع فيها في كل الاتجاهات لفترة طويلة، حتى أنه لا يدرك كم مر عليه من الوقت، وهو في هذه الوضعية، تراه كأنه يطرز قطعة قماش في حركات متناسقة، جمعت اليد والعين والتفكير في لحظة واحدة، بضربات خفيفة متتابعة وهي تبتسم، تترك فوق قطعة النحاس ثغورا مختلفة الأشكال، تتجلى في الأخير رسومات جميلة، متساوية في خطوط طولها، ودوائر عرضها.

أدوات بسيطة أسست لحضارة خالدة

لا تتطلب هذه الحرفة، آلات حديثة تخضع لتكنولوجيات دقيقة، فهي فقط مطرقة صغيرة، ومنقار قصير بمختلف الأشكال، حسب شكل النقش المراد ترجمته على هذه الصفحات من النحاس، لكنهما وبرغم صغرهما استطاعا أن يؤسسا لحضارة خالدة عبر العصور، جلسنا إلى الكثير ممن مازالوا محافظين على هذه الحرفة وهم يفترشون الأرض من أجل السيطرة على صفيحة النحاس، والحصول على وضعية لائقة، فهي حرفة تتطلب الكثير من الصبر والجهد الفكري والعضلي، من أجل الوصول إلى أشكال هندسية متناسقة، تغازل بعضها في كل وقت، تعشقها عين كل زائر لهذه الشوارع، حالها حال الموسيقى التي تطرب الأذان.
قطع متجاورات، تحتمي ببعضها البعض في كل زاوية، كل واحدة تحكي تاريخ حضارة، أو ذكرى حسب الزمن الذي واكبته، منها ما رحلت مع الزوار لتزين حاضرهم، ومنها ما مازالت تنتظر، في هذا الوقت مازال صناعها منكبين على تقديم أشكال أخرى، ورسم زخارف تعدت الزمان من الماضي إلى المستقبل، مرورا بحاضرنا نحن، في هذه المساحة الزمنية، التي عبرنا بها إلى تراث الجزائر من خلال هذه الحرفة.
أصر الكثير على بقائها ضمن التراث الحضاري، الذي تزخر به بلدنا، كانوا خير رفيق لها، ونعم الصديق كذلك، رغم مرور السنوات الطويلة، بل القرون، في أجمل صورة للوفاء، وفاء امتد من جيل إلى الجيل الذي يليه، وهو ما سمح بالحفاظ على هذه الحرفة ودوامها، يظهر إخلاصهم لها في تجاعيد وجوههم، وقطرات عرقهم التي تتناغم مع بريقها، وفي دقة أصابعهم التي تغازل المنقار الصغير وتمسكه بلطف، كحال مسك الرجل للمرأة من خصرها، وعيناها تتجمل بحسن تضاريسها، يتباعدان حينا ويلتصقان حينا آخر في صورة جميلة فاتنة، وهو حال النقش على النحاس.

عمي إسماعيل: “النقش على النحاس أمانة في أعناقنا يجب الحفاظ عليها”

بأنامل جفت ملامحها مع مرور السنوات، وعينان كأنهما يبتعدان إلى الخلف، حتى أصبحا يختفيان في جحر عميق، وبمقلتين صغيرتين تحت حاجبين عريضين يداعبهما الشيب، ينظر إلينا مبتسما، ثم يعود للطرق والتركيز لفترة طويلة، وبذراعين هزيلتين يحتضن “عمي إسماعيل” صفيحة دائرية من النحاس، يضربها برفق، ثم يمررها على ركبتيه بطريقة آلية طبعتها التجربة، يتوقف من حين لآخر للحديث إلينا عن حرفته التي تربى عليها: “بدأت ممارسة هذه الحرفة في 1972، أي تقريبا أربعة عقود، تعلمتها على مراحل بمختلف تطوراتها، الشيء الذي دفعني لتعلمها وتعلقي بها هي حبي لها منذ الصغر، وهو أساس النجاح في كل مجال، أنا باق في العمل في هذا المجال، ومحافظ على هذا التراث الذي أراه أمانة في أعناقنا يجب الاهتمام بها، خاصة في ظل التحضر الذي مس كل شيء اليوم، الكثير من الناس يرون أن هذه الحرفة متعبة وهو كذلك، أما أنا وكل من يعمل في هذا المجال، ومع مرور الوقت ألفناها وأصبحنا لا نبالي بتعبها، المهم عندنا هو الوصول إلى عمل متقن، يعجب كل من يراه، وهو ما نرجوه من هذه الحرفة”.
بعد هذه الزيارة الخفيفة، تركنا عمي اسماعيل، يداعب هذه الصفيحة النحاسية، التي لم يبق على إتمامها إلا القليل من الوقت، بعد العمل عليها لمدة يومين متتاليين دون انقطاع.
رحلنا بعد هذه الفترة التي قضيناها في شوارع النقش على النحاس في مدينة الجسر العتيق، وكلما ابتعدنا خف صوت الطرق على أذاننا، غير أننا احتفظنا بلحنها الذي بقي يشدنا، ونحن نرسم في أذهاننا الكثير من الأشكال والتحف، طرقا يتسلسل تباعا، مثل تسلسل حروف الموسيقى من أجل الوصول إلى لحن مميز، وهو ما يحدث مع هذه الصفائح التي كانت صفراء صافية براقة، أخرجت إلينا تحفا مميزة، بنقوش مختلفة الأشكال فتنت كل ناظر إليها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!