-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الكتابة الفايسبوكية وتداعيات الفوضى القيمية والأخلاقية

الكتابة الفايسبوكية وتداعيات الفوضى القيمية والأخلاقية
ح.م

كان من تداعيات نظرية الحداثة (التفكيك، التشكيك، التحلل، التحرر) وما بعد الحداثة المُشكِّكَةِ في نظرية الحداثة نفسها على العالم قاطبة وعلى العالمين العربي والإسلامي على وجه الخصوص هذه الفوضى القيمية والأخلاقية والدينية والمعيارية.. التي مسّت صميم البنى الأساسية للحياة السوية والمستقيمة، وقوضتْ نظم الحياة الطبيعية والفطرية الرومانسية الجميلة والحالمة، وأتتْ على كل شيء جميل بنته الإنسانية بناء تشاركيا على مدار حياتها الحضارية الماضية، فهدمته بوحشية فظةٍ ومن غير مبالاة ولا اكتراثٍ، وحطمته ببربرية مجةٍ غير نادمةٍ عليه، ومحتْ آثاره الجميلة والطيبة دونما استئذان..

كان هذا من أخطر وأنكى عمليات الإفساد والتهديم العولمي الذي صرنا وصارت معنا الإنسانية المريضة من ضحاياه ومنكوبيه في عوالم: القيم والمبادئ والأفكار والروح والأشخاص والأشياء، على حساب الانتصار والفوز فقط لعالم الأشياء والمواد والجماد والمال والتخزين والتكديس.. وتطويع العقل ومنجزاته العلمية والفكرية والمنهجية وقتل الروح والضمير الحي أيضا من أجل عالم الأرقام والإحصاءات والمزادات والبورصات والمؤشرات المالية والاقتصادية..

بعد أن كانت الحياة تسير وفق سنن الفطرة ونواميسها الضابطة الهادئة، وبعد أن كانت التدافعات تجري وتدرجات عوالم الروح والأفكار والقيم الناظمة لشؤون الحياة الفردية والجمعية المنسجمة، وبعد أن كانت المراتب والدرجات والمقامات تُنال وفق سلم الأولويات والاستحقاقات والجدارة.. وبعد أن كانت الثروة تُجمع عبر سنين العمل والكد والجهد والمثابرة الطويلة والشاقة جدا، وعبر تعاقب ومثابرة الأجيال في الأسرة الواحدة.. وبعد.. وبعد.. صارتْ اليوم كل تقاليد وقيم ومُثل ومبادئ ومعايير الحياة السوية في مختلف الميادين والمجالات -بفعل هذا الزخ والفيضان العولمي الأعمى- خليطا هجينا غير متجانس ولا منسجم من القيم العولمية والحداثية الجديدة، التي لا تعترف للماضي الجميل بشيء، بل صارت تتنكر له تنكرا مؤلما ومؤسفا، وتتهمه بأنه سبب تخلفها وتأخرها وتعثر انطلاقتها الحضارية العولمية المنفلتة الجامحة..

ولعلنا نختار مجالا واحدا لنقيس به عمق وحقيقة تلك التحولات الخطيرة التي شهدها العالم بفعل ذلك الضخ العولمي اللاقيمي المُنفلتِ، لنرى فداحة الخطب والنكاية التي حلتْ بالبشرية قاطبة في القرن الواحد والعشرين، ومن خلاله نتبيَّن ماذا جنينا على أنفسنا؟ وماذا كسبنا من منافع؟ وماذا خسرنا من قيمنا وإنسانيتنا وصفائنا وطهارتنا وكرامتنا الإنسانية الغالية؟ ولعلنا نختار ميدان القراءة والمطالعة والكتابة والتأليف والبحث العلمي والإرشاد والتوعية.. الذي نشأنا وتربينا وكبرنا في أحضانه وفضاءاته السوية، ليكون تحليلنا أكثر وجاهة وقيمة لتخصصيتنا فيه ولمعرفتنا بأبعاده وأغواره.

وبعد أن كان الواحد من ذلك الجيل الجميل –الذي أنتمي إليه- يحتاج إلى جهود سنين طويلة وشديدة وشاقة من: القراءة والمطالعة والسماع والاستماع والإنصات والسؤال والمحاولة والكتابة والتمكن من أدوات وآليات التفكير والكتابة.. لترتقي به تلك الجهود الحثيثة والجادة في مطالع حياته العلمية والمعرفية الحافلة إلى منازل السالكين ومدارج الواصلين في عالم من عوالم الكلمة العلمية أو الأدبية، وما كان ليتجرأ الواحد منا –بعد تلك الحصيلة المعرفية والتجريبية المحترمة والمقبولة- أن يُفكر ليُرسل خاطرة أو قصيدة أو قطعة نثرية أو أقصوصة أو مقالا إلى إحدى الصحف الجهوية أو بعض المجلات المحلية أو الوطنية لتُنشر له أو ليُقدم عنها ملخصا أو مختصرا، إلاّ بعد أن يعرضها على أساتذته أو أدباء البلدة ومفكريها، فإن استحسنوها وصحّحوا ما بها من عيوب وأخطاء وشجعوه لإرسالها أرسلها وقلبه على مرجل من نار الخجل والحشمة من مرض التطاول بغير علم، وهو يُحَدِّثُ نفسه كيف يتجرأ أن ينشر في صحيفة أو مجلة يكتب وينشر فيها ذلك الكاتب أو الأديب أو المفكر المشهور.. الذي قطع عمره في القراءة والكتابة والتأليف.. لأنه ليس من الأدب والأخلاق يومها أن توضع صورته ومقالته بجانب صور ومقالات الكبار، وإن وُضعت فذلك يعني أن هذا الأديب الصغير الواعد –إن واصل المسيرة العلمية الجادة- صار كاتبا أو مفكرا أو ناقدا أو صاحب قلمٍ.. لأن الأمور كانت تجري وفق سلم عالم القيم الفاضلة.. ولم تكن محكومة بالفوضى والفساد والاختلاط والجرأة الفظةِ كحالنا اليوم.

لذا، فقد كان عدد الكتّابِ والشعراء والنقاد والباحثين قليلا في كل بلدة، بل ربما في الوطن كله، فقد كان لعهد قريب -قبل الفساد الإجرامي للنظام البوتفليقي- عدد حملة شهادة الدكتوراه والباحثين الجادين والمتميزين والمنتجين للمعرفة بكافة أشكالها معدودين ومحسوبين ومعروفين، وليس كحالنا اليوم حيث تعيش الجامعة الجزائرية –للأسف- تخمة مقززة في الألقاب (بروفيسور، أستاذ محاضر أ، و ب) الفارغة والجوفاء أيضا، ولكن من غير إنتاج علمي أو فكري أو أدبي أو معرفي أو إعلامي أو ديني.. غير الفراغ المعيب والمشين والكاذب أيضا، وشعار وعبارة (كتب على صفحته في تويتر أو الفايسبوك..)، حيث يتساوى البروفيسور المسكين –من حيث لا يدري أو يدري- هو والأميين والجهلة والعاميين والبسطاء والسذج والسطحيين وقليلي البضاعة والمعرفة، ممن لا يعرفون شيئا ولا يمتلكون من المعارف المطلوبة والأساسية في الحياة، بدءًا من قواعد أي لغة بما فيها اللغة العربية وانتهاءً بالمعارف والقواعد العلمية الضرورية للكتابة، والتي تؤهل وتمنح لصاحبها الأحقية والشرعية والقانونية والمعيارية الاجتماعية والفنية والأدبية.. لممارسة فن الكتابة وتوجيه الجماهير فضلا عن التأثير في تفكيرها وروحها وسلوكها..

وللأسف الشديد، فإن هذا الصنف الفارغ من الجامعيين يملأ الساحة الإلكترونية اليوم، بعد أن اكتشف نفسه خلال سنين تدريسه الطويلة والفارغة أيضا والتي لم يؤلِّف فيها مذكرة أو كتابا محترما، أنه ليس أهلا للنشر أو الكتابة أو التأليف.. حتى صارتْ صفحات التواصل الاجتماعي مليئة بهذا الصنف الجامعي الفاشل، الذي رضي لنفسه هذه المكانة البائسة، بحثا عن الشهرة، أو طمعا في تصدّرِ جحافل الحَراك، الذي لم يكن من دعاته أو من المحركين له أو من قوافله الأولى، أو حتى من ضحايا النظام البوتفليقي العفن.. وبعد أن كانت الكتابة عمودية وفوقية وامتيازية ونخبوية.. لا يقربها إلاّ من أُوتي فضائلها وخصائصها ومميزاتها ومحاسنها.. رضي المسكينُ لنفسه هذه المكانة وقبل بالكتابة الأفقية والسطحية الانبطاحية.. ولأنه خلُوٌ وعُطْلٌ من أدواتها وآلياتها الباهظة الثمن والتكاليف والتحصيل، وجراء ذلك الوضع الهزلي والهزالي كله، فقد قبل هذا الجامعيُّ الهزيل أن يكتب مع طلبته الكسالى والفارغين والتافهين والضعفاء في اللغة والبيان، والذين لا يعرفون أبسط المعارف اللغوية (مواقع الهمزة، والفرق بين الضاد والظاء، والفاعل والمفعول والنعت والتمييز..)، ولا أبسط المعارف الدينية (نسب الرسول وميلاده وكيفية ترقيع الصلاة..)، ولا أبسط المعارف العلمية (أشهر أسماء المؤلفات والكتب والكتّاب في تخصصه الجامعي الذي لا يحضره وينجح فيه بالغش والتزوير..)..

هذه –للأسف- بعض نتائج الفتوحات والتباشير العولمية التي بشرنا بها قساوسة الإعلام الإلكتروني مطالع الألفية الثالثة أمثال: (نيكولاس نبغروبونتي، كلود كليش، لويس ممفورد، جاك إيلوك، سيجفريد جدعون، هربرت ماركوزة..)، ودعا إليها فلاسفة الحداثة دعاية تبشيرية دينية أكيدة أمثال: (جاك دريدا، أبرهامز، فرنكرفورت، نعوم تشومسكي، فرانسيس فوكوياما، صمويل بي هنتغتون، محمد أركون، محمد شحرور، حسن حنفي، عبد الله العروي..)، كبديل للديانات والمعتقدات والقيم الأخلاقية الماضية.. وانداحت الإنسانية لاهثة وراء سراب الموجة الإلكترونية الاتصالية الأخيرة، تنشد منها الدخول إلى فضاءات عالم القرن الواحد والعشرين الرحبة والمفتوحة من غير قيود.

قرن عالم الحداثة والانطلاق اللامعقول، قرن تجاوز حدود المعرفة الماضوية الفائتة، نحو عالم تفكيك شفرة الـ (A.D.N)، وتفكيك الذرة إلكترونيا، وتسخير كل ما في الكون لخدمة النهم العولمي والشهوة الإنسانية الجامحة، والتي باتت لا تعرف القيود أو الحدود أو الضوابط الوضعية فضلا عن الضوابط الدينية، وها نحن نبصرها اليوم -دونما جهد- كيف جلبت لنا وللإنسانية جمعاء هذه الفوضى القيمية والأخلاقية والمعيارية والمعرفية والعلمية.. فصار الكل يكتب ويمارس أقدس مهنة على وجه الأرض على صفحته في الفضاء الأزرق المفتوح بلا قيود، هذا الفضاء المتاح لمن يعرف ولمن لا يعرف أيضا، ولا يهمه أكتب صحيحا أم خاطئا؟ وصار الكل يُدلي بآرائه وأفكاره، ولا يهمه إن كانت صائبة أو قاتلة أو شاذة أو ميتة أو مميتة؟ وصار الكل يقترح حلول الأزمة المحلية بَلْهَ العالمية أيضا، دون أن يكون له سبق معرفة أو تكوين في عالم النظريات الناظمة لنواميس التغيير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والفكري والثقافي.. وصار الكل يتفلسف ويناقش ويهدر معتقدا أن الفلسفة هي الكلام الأجوف الذي يُدوِّنه على صفحته الإلكترونية، وصار الكل يقدِّم دروسا في المعرفة والعلم والحياة بعلم أو من غير علم، بمعرفة أو من غير معرفة، حتى لنرى انطباق قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فينا حين قال: “ثلاث مهلكات، شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه”.

والمشكلة أن التشخيص طويل جدا، وإن كان مهمّا في توضيح وكشف الصورة المطلوبة علميا ومنهجيا، ولكنه يكفينا توصيف مجال واحد يعكس لنا حقيقة وحجم وفداحة الفوضى القيمية التي نعيشها والإنسانية، ويغنينا عن إحصاء واستقراء معطيات الفوضى القيمية الشاملة في شتى المجالات التي اقتحمها الكل، وهنا نتوقف مليا لنتمكن من تقدير مخاطر هذه الفوضى القيمية الفادحة، والتي فعلت فعلها في الإنسانية، وخلفت فيها الكثير من العلل والأسقام والعقد النفسية الآتية:

1 – انهيار سلم القيم المعيارية والأولويات التراتبية في البنى التفكيرية والاعتقادية والوجدانية والسلوكية للفرد والجماعة.

2 –انهيار الوازع الديني والأخلاقي والقيمي والروحي للإنسان، بعد أن تحوّل إلى مجموعة من الغرائز والشهوات والمطالب التي لا تنتهي ولا تقف عند حدود الفضيلة، كموجة العري والإباحية والكشف.. الغريبة جدا والبعيدة جدا عن ثقافتنا الدينية والأخلاقية الإسلامية.

3 – تراجع قيمة العمل كمكوِّن أساسي ومعياري تستقيم به حياة الفرد والجماعة، لظهور طرق للربح والكسب السريع عبر البورصات والسمسرة والاحتكارات والاستغلال وغيرها من أشكال البيع والتسوق الإلكتروني الفوضوي.. فضلا عن الجريمة الإلكترونية المنظمة والعابرة للقارات..

3 –انهيار المنظومة التعبدية كمنظومة ضابطة وحاكمة في الأنفس والعقول والأفكار والأرواح والأشخاص والأشياء والعمران.. وتراجع السلوك التعبدي لدى الكتل البشرية الغريزية، والاستغناء عن العبادة والتديُّن كمظهر من مظاهر البناء الاجتماعي السوي، وتحوُّل العبادة إلى مجرد ممارسات شكلية وجوفاء، لا قيمة ولا أثر لها أمام سلطان الشهوات العولمية الجامحة.

4 –سيادة قيم الفوضى والتداخل والهرج والمرج واللانسقية في بنى النسيج الاجتماعي للفرد والجماعة.

5 – بروز وتنطع وصَدَحُ الرويبضات على القنوات الفضائية ومواقع التواصل الإلكتروني، الذين حذرنا منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عدَّ الرويبضة: (التافه الفاسق الذي يتكلم في أمور الناس)، مستغلين الفوضى القيمية، حيث لا رادع يردعهم سوى الاستجابة لأسقامهم النفسية.

وفي ختام هذه الإطلالات الفوضوية السريعة، هذا هو الخطب –والله- كبير وكبير جدا.. ومن الصعب ترميمه وإصلاحه، ولكن طريق الإصلاح وسبيل الخير يبدأ بالخطوة الأولى، فمتى نضع أقدامنا على الطريق الصحيح لنخطو الخطوة الصحيحة الأولى؟ ومتى يرزقنا الله بالمصلحين المخلصين؟ وفي انتظار ذلك: هذا هو خطابي للنخبة المخلصة فقط، أما الآخرون فعليهم العودة لمقاعد الدراسة، فهل من مدّكر؟ أم على قلوبٍ أقفالها؟

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • شخص

    للأسف، ما تركه لنا البارابول أكمل عليه الأنترنت و خاصةً الفايسبوك حتى شبّهه بعض العلماء بالدجال !