-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المال ينبغي أن يكون عبدا لا سيّدا

سلطان بركاني
  • 404
  • 1
المال ينبغي أن يكون عبدا لا سيّدا
ح.م

اعتدنا في حياتنا على أن ننظر إلى المال بأنّه أهمّ مصدر للسّعادة والرّاحة، ولذلك جعلنا تحصيله وجمعه هدفنا الأوّل، وجعله كثير منّا هدفه الأوّل والأخير.. وكلّنا نرى كيف يحزن الواحد منّا عندما يتأخّر راتبه ويظلّ ينتظر على أحرّ من الجمر، لكأنّ أبواب الدّنيا كلّها أغلقت في وجهه وكأنّه لا طعم للحياة ما دام لا يملك في جيبهمالا، وما أن يُصبّ الرّاتب في حسابه حتى يسارع إلى سحبه، فإذا وضعه في جيبه انقلب الحزن فرحا وتحوّلت الكآبة إلى سعادة.. ثمّ تتوالى الأيام وكلّما نقص المال الذي في جيبه بدأ الخوف والقلق يتسلّلان إلى قلبه، فإذا نفد المال ونفد الراتب عاد مرّة أخرى إلى حزنه وقلقه وترقّبه.

ما قيل عن الموظّف الذي ارتهن سعادته لراتبه، يقال أيضا عن التّاجر الذي يظلّ يومه يحسب ربحه ويَعدّ الأوراق التي دخلت إلى درج محلّه.. يعود إلى بيته فرحا مسرورا متى ما كان ربحه كافيا وفوق المأمول، لكنّه يعود كئيبا حزينا متى كان دخله دون ما كان ينتظره ويتمنّاه.

نعم، مولانا سبحانه وتعالى جعل المال زينةً للحياة الدّنيا، فقال جلّ من قائل: ((الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))، ومِن حقّنا أن نفرح بما جعله الله زينة لحياتنا كما نفرح بنعمه الأخرى من صحّة وعافية وذرية. قال أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: “اللهمّ إنّا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زيّنته لنا، اللَّهمّ إنّي أسألك أن أنفقه في حقّه”.. من حقّنا أن نفرح بالمال، لكنّ هذا الفرح ينبغي ألا يملأ قلوبنا وينسينا فرحا آخر أدوم وأهمّ هو الفرح بمحبّة الله وطاعته والاستقامة على دينه، ولهذا قال الحنّان سبحانه في تمام الآية السّابقة: ((الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً)).. الفرح بالمال لا يجوز أبدا أن يتحوّل إلى حبّ يملك القلب ويتربّع على سويدائه؛ والمكان الصّحيح للمال هو اليد وليس القلب، هذا هو الوضع الصّحيح، لكنّنا إلا من رحم الله منّا سمحنا للمال بأن يدخل إلى قلوبنا ويخالط أرواحنا ويسري في عروقنا، وصدق في حقّ كثير منّا قول الله تعالى: ((وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا))، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: “يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان: حبّ المال وطول العمر”.. هذا الوضع لا بدّ من أن يصحّح، حتى تستقيم حياتنا وتنسجم مع الغرض الذي لأجله خلقنا؛ ينبغي لحبّ المال أن يخرج من قلوبنا حتى تصلح حياتنا وتستقيم أمورنا ونجد السّعادة الحقيقية.

تأمّل أخي المؤمن وتدبّر هذه الحقيقة السّاطعة التي نُقرّها جميعا بلسان المقال، لكنّنا –إلا من رحم الله منّا- نخالفها بلسان الواقع والحال: “المال يشتري للواحد منّا الطعام، لكنه لا يشتري له الصحة.. يشتري له ساعة ثمينة، لكنه لا يشتري له الوقت.. يشتري له المعارف، لكنه لا يشتري له الأصدقاء المخلصين.. يشتري له سريراً مريحاً، لكنه لا يشتري له النوم.. يشتري له منزلا واسعاً، لكنّه لا يشتري له راحة البال.. يمكّنه من الظّفر بزوجة، لكنه لا يشتري له الودّ والتفاهم.. بالمال يستطيع أن يحصلَ على ولاءِ الألسنِ، وتصفيقِ الأكُفِّ، ولكن يستحيل أن تشتري به محبَّةَ القلوب، وقناعاتِ العقولِ.. المال ربّما يمكّن صاحبه من كلّ شهوة ومتاع يريده في هذه الدّنيا، لكنّه لا يشتري له سعادة قلبه، والأنكى من هذا أنّه لا يشتري له نجاته في الآخرة، بل ربّما يكون يوم القيامة ممّن يقول قائلهم: ((ما أغنى عنّي ماليه))”.

المال زينة، لكنّه أيضا فتنة، فربّما يكون سببا في تعاسة قلب وروح الإنسان في هذه الدّنيا وسببا في خسارته يوم القيامة إذا سمح له –أي للمال- بالاستيلاء على قلبه، فاكتسبه من غير حلّه وأنفقه في غير محلّه، وألهاه عن طاعة خالقه وحرّضه على قطيعة رحمه، لهذا يقول الحكماء: “من جعل المال كلَّ شيءٍ، عمِلَ في سبيلِه أيَّ شيءٍ، ومَن عمل في سبيلِ المال أيَّ شيءٍ، جاءَتْه التعاسةُ بحذافيرِها، ولو كان عنده كلُّ شيء”.

المال ينبغي أن يكون وسيلة لا غاية، وعبدا لا سيّدا، عونا للعبد على إصلاح دينه ودنياه وآخرته، على نفع أهل الحاجات وعلى صلة رحمه وخدمة دينه وأمّته، ولا يجوز أبدا أن ينسيه دينه وأمته ونفسه.. المالبالنّسبة لعبدٍ مؤمن لا يجوز أبدا أن يكون أهمّ من دينه وصحته وكرامته ووقته وعمره.

ذكر النيسابوري في كتابه “عقلاء المجانين، ص 67” أنّ الخليفة العبّاسيّ هارون الرّشيد خرج إلى الحجّ، “فلمّا كان بظاهر الكوفة بَصُر بهلولاً المجنون وخلفه الصبيان وهو يعدو، فقال: من هذا؟! قالوا: بهلول المجنون، قال: كنت أشتهي أن أراه، فادْعُوه من غير ترويع، فقالوا له أجبأمير المؤمنين، فلم يستجب! فتقدّم إليه الرشيد فقال: السلام عليك يا بهلول. قال: وعليك السلام يا أمير المؤمنين. قال: كنت إليك بالأشواق، قال: لكني لم أشتق إليك! قال: عظني يا بهلول، قال: وبمَ أعِظُك؟! هذه قصورهم وهذه قبورهم! قال: زدني فقد أحسنت، قال: يا أمير المؤمنين من رزقه الله مالاً وجمالاًفعفّ في جماله وواسى في ماله كُتب في ديوان الأبرار. فظنّ الرشيد أنّ بهلولا يريد شيئاً لنفسه، فقال: قد أمرنا لك أن يقضى دينك. قال: لا يا أمير المؤمنين لا يُقضى الدين بدين؛ أردد الحقَّ على أهله، واقض دين نفسك من نفسك! قال: فإنا قد أمرنا أن يُجرى عليك (راتب). قال: يا أمير المؤمنين أتُرى الله يعطيك وينساني. ومضى وهو يردّد هذه الكلمة.

دين المسلم وكرامته ينبغي أن يظلا أهمّ عنده من المال، فلا يذبح دينه ويتخلّى عن واجباته ويضيّع فرائضه، لأجل المال؛ يؤخّر الصّلاة ويجحد الزّكاة ويبخل بالصّدقات حفاظا على ماله، ويعادي والديه وإخوته وأقاربه، لأجل المال، أو تترك المسلمة حجابها وحياءها لأجل منصب أو راتب، ولا يُهدر –المسلم- كرامته وعزّته ويريق ماء وجهه لأجل المال، فيطرق أبواب المفسدين واللّصوص ويطوف على الموائد لعلّه يحظى ببعض الفتات، لأنّ المال وسيلة لتحقيق السّعادة، وأيّ سعادة سيجدها من باع دينه أو كرامته لأجل المال؟ يقول الإمام الشّافعيّ رحمه الله: “والله لو علمت أنّ شرب الماء البارد يثلم مروءتي، ما شربته إلاّ حارا”، ويقول علي الجرماني رحمه الله: “يقولون تَوَصَّلْ بالخضوع إِلى الغِنى، وما عملوا أنّ الخضوعَ هو الفقرُ، وبيني وبين المالِ بابان حرَّما عليَّ الغنى: نفسي الأبيةُ والدهرُ”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • يوغرطة

    لكن يا سلطان بركاني هناك علماء دين تحولوا من عبادة الخالق عز وجل الي عبادة المال والملوك والحكام للاسف الشديد والمثال علماء السلفية الوهابية امثال السديس امام الحرمين صاحب البطن الكبيرة صديق امريكا الصليبية -يقول السديس ان امريكا تنشر الامن والسلام في العالم والله غريب عجيب امر هذا البشري الادمي - وال الشيخ والمجموعة الصوتية التابعة لعائلة ال سعود التي باعت القدس العربي الشريف مقابل عروشهم وملكهم
    يا سيد بركاني نحن نعيش زمن النفاق والاعتناق نعم