-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المدرسة مُعلّم

المدرسة مُعلّم
ح.م

للمدرسة أسس وقواعد وأركان عديدة، ولكن عمودها الأصلب وعودها الأمتن، على وجه الإطلاق، هو المعلم؛ فإن سهر وأخلص وأجزل في التضحية وأوسع في العطاء، ازدهرت الحياة المدرسية كما تزدهر الحقول المزروعة بعد الهطول. أما إذا تساهل وتراخى وتكاسل، فسيظل وجه المدرسة وما خرّجته أصفر شاحبا كوجه الأرض الجرداء التي لا تجري لبنا في ضرع، ولا تنقذ جائعا من مسغبة مهلكة.

يمكن أن تغيب المدرسة كهيكل بنائي كما هي الحال في كثير من بقاع العالم الفقيرة التي تعجز على توفير البنيات التحتية الضرورية، أو في أوقات الحروب المدمرة وفترات الكوارث المهلكة كالزلازل والبراكين والعواصف والفيضانات الناشئة من انفعال الطبيعة، وتعكر مزاجها. ولكن المعلم المجتهد لا يبقى مكتوف اليدين أمام هذا الوضع الاستثنائي، وإنما يستطيع أن يجعل من كهف مهجور أو خيمة متروكة أو مغارة منسية أو شجرة وارفة الظلال أو أطلال مسكن منهار أو بطن واد بعيد عن الأنظار، يستطيع أن يجعل من كل هذه الأماكن غير المهيَّأة مآوي يأوي إليها مع متعلميه ليلقنهم ولو ما قل وخف. وإن احتار في أمر التدوين، كتب على صخرة ملساء أو قطعة لوح مشروخة.

قد يكون المنهج الدراسي ضعيف المحتوى معلولا ومفككا، وبلا رابط يربط بين عناصره ومواضيعه ومحاوره، ولكن المعلم الهمام والمتمكن يقدر على تنفيذه تنفيذا ذكيا بعد أن يرمم كل هذه النقائص ويجبر رضوضها، ويسد فجواتها، ويخيط ثلومها وفتوقها معتمدا على شدة البحث والمطالعة، ومستعينا بخبرته وتجربته إن كان مكتسبا لهما.

من باب الاحتمال أن يغفل المنهاج عن الإشارة إلى مقاربة التدريس لسبب أو لآخر، ولكن المعلم العارف سيختار منهج السير على المقاربة التي يرى محصولها خصبا وثريا. وكذلك يفعل في اجتهاد لتحضير سندات التدريس التي يضعها بين أيدي متعلميه ولو من قصاصات الجرائد والمجلات المرمية.

لا تستقيم المدرسة إلا إذا استقام المعلم، ولا تنهض نحو الأصوب والأرقى والأمثل إلا إذا كان المعلم متيقظا حازما ومتعودا على صرف طاقته العقلية والجسمية في جمع مواد دروسه. وأما غفلة المعلم وتقاعسه وانهزامه، فهي أسباب جلب الانكسار والتعاسة والتردي للمدرسة، بل للوطن برمته.

المعلم هو وحده من ينبغي عليه أن يدرك أنه يقف على بوابة أكبر مشروع استثماري في الوطن. ففي الوقت الذي يقف الآخرون للاستثمار في ظهور الحقول وبواطنها، فإنه يستثمر في أذهان الناشئة الغضة الطرية. فينبغي له ألا ينسى أن صورة مدرسته اليوم هي نفسها الصورة التي سيكون عليها وطنه غدا. ولا يجوز له أن يغفل، ولو لبرهة من الزمن، أنه مؤتمن على أنفس كنوز الوطن، وهي عقول الصغار التي سيعجنها ويشكلها حسب مواهبها وفق رؤى مستقبلية لا تعادي مقومات هوية الأمة، ولا تتجاهل القيم الإنسانية التي تربطهم بالإنسان حيثما كان. ولذا على المعلم أن يرضى الاحتراق كالشمعة حتى يضيء الطريق أمام تلاميذه، وأن يضحي بكده ووقته وصحته، وان يعطي أضعاف ما يأخذ، وان يقدم واجباته عن حقوقه في سبيل إرضاء ضميره وإشباع نهم حبه لمهنته.

يسبق دور المعلم في قسمه أدوار الفلاح في حقله والعامل في مشغله. فإذا كان الفلاح يصرف يومه كله في الحرث والسقاية والشذب والعزق وحصاد خيرات الأرض لتوفير الغذاء لأبناء وطنه ولإبعاد غائلة الجوع عن بطونهم. والعامل لا يتوقف عن الاشتغال في مصنعه أو ورشته حتى يوفر لهم المأوى والملبس وضروريات الحياة المريحة، فإن المعلم هو وحده من يأخذ بصغار وطنه إلى مرافئ الآمان والاستقرار والراحة النفسية؛ لأنه هو من يهيئهم لمزاولة الحياة والعيش الاجتماعي بأسلوب متمدن وراق. ويدربهم على سلامة التفكير والتدبير لحل مشكلاتهم مهما استعصت وانغلقت، ويمرنهم على المقاومة والصبر أمام المصاعب والنوائب. وهو من يصقل أخلاقهم ويزيح عنهم الفظاظة في الخطاب والغلظة في التواصل والخشونة في النقاش. وهو من ينشئهم على حب الوطن وحمل همه في قلوبهم، ويربيهم على أساليب المواطنة ومبادئ التسامح وقبول الخلاف والحوار البناء والاعتذار بعد الخطإ والاعتراف لصاحب الحق ومجاراة الصواب والتواضع للناس أجمعين.

لا ترتاح المدرسة بالمعلم الذي جاءها مرغما كالأسير بعد أن طوقته الخيبات المتكررة، وأجهضت أحلامه وأهزمه طول الانتظار، وأغلقت في وجهه أبواب كل المنافذ الموصلة إلى الحصول على عمل أو وظيفة أخرى. وإنما تسعد بالمعلم الموهوب المبدع وصاحب الاستعداد الذي ساقته رغبته إلى أقسامها عن طوع لين وحب طاغ وهو يتطلع، مع شروق شمس كل يوم، إلى خدمة رجال المستقبل في وطنه.

لا ترتاح المدرسة للرجل العادي لما يقف معلما في أقسامها، ويكتفي بتسويق معلومات معلبة وبالية، وأحجم بخلا عن تجديدها وتحيينها، وإنما ترفل زهوا للمعلم الذي بإمكانه أن يحسن البناء ويعمل على إتمامه. وهو المعلم الذي لا يعرف راحة ولا يركن إلى مضيعة الوقت؛ لأنه يعلم أن العقد الاجتماعي الذي يربطه بمتعلميه من دون الإعلان عن بنوده هو من يحرك إرادته، ويستنهض همته، ويحرك نشاطه حتى يصبح مختلفا عن غيره من البشر. ألم تسمعوا بقول القائل: (على معلم الرجال أن يكون أكثر من رجل).

لا يكون المعلم معلما إلا إذا كان رساليا مواظبا ومتطلعا إلى العلا، وحاملا رسالته في قلبه وعقله ووجدانه وفي كل حاسة من حواسه.

يستحيل أن يكون المعلم معلما في قسمه ما لم يصعد الدرجات حتى يصل والعرق يتصبب من جبينه إلى رتبة المربي L’ éducateur. ويصبح يقدم التربية عن التعليم من خلال الإرشاد والنصح والتوجيه نحو السلوكات الحضارية السليمة واجتثاث التصرفات السيئة.

لا يكون المعلم معلما إذا أفنى عمره في الجري خلف نيل حقوقه المادية، وعمل على اكتسابها بكل وسيلة وأداة عل حساب واجباته. وبذلك تنحرف خطاه عن الجادة، وتقع في حفر التقصير والتهاون والإهمال، فيسقط من عيون متعلميه، ويتجرؤون على قذفه بأحقر الأوصاف وأقبح النعوت، ولا يذكرون اسمه إلا متبوعا بالازدراء والاستخفاف.

لا يكون المعلم معلما إذا سكن حب الدرهم والدينار قلبه، واستولى عليه، وراح يجاري نهمه حتى ينسلخ من جلده. وقبل أن ينقل الأقساط الكبرى من جهده خارج أسوار المدرسة متنقلا من مسكن إلى مسكن، ومن مرآب إلى مرآب كمن يتسول الناس لا ينقصه سوى الاستعطاف والاستجداء. ودعواه أن يقدم خدمة لمحتاجيها تحت عنوان مشوه، هو: “الدروس اللصوصية”. وينسى أنه فقد طباعه الطيبة وعاداته الجميلة، وأساء إلى نفسه، وفقد مزينات شخصيه، ولطخ سمعته، وجرح قدسية رسالته الشريفة، وجلب إلى نفسه سهام النقد والتجريح وسكاكين الطعن من كل حدب وصوب. وأصبح أسيرا مستسلما بين أيدي مجموعة من المتعلمين وأوليائهم، ينفذ أماليهم في العلامات والملاحظات، وموليا ظهره لغيرهم ممن لا حول لهم ولا قوة.

كيف يتسنم المعلم سنام الارتقاء حتى يصبح بين مصاف المربين المتميزين وهو لا يبدع في عمله، ولا يضيف إلى قديمه جديدا يزيح غباره، ولا يشق إلى الابتكار طريقا، وينفر من كل مستحدث يقرر ويواجهه بالصد والإعراض. ويرضى خائبا أن يكون درس يومه نسخة طبق الأصل لدرس أمسه ومماثلا لدرس غده. فإذا كان الماء الرقراق يأسن ويفسد بالحجر والحجز، فكيف لا تتعفن دروس المعلم لما يبقيها على حالها القديم؟

كيف يتسلق معلم اليوم المراقي، ويسعد بلقب المربي وفكره منشطر بين مهمة التعليم وهم مختلق يسمونه: “النضال النقابي”؟ وأنى له أن يتدثر بدثار أهل الوجاهة وأن يلبس لحاف التقدير اللذين يمنحهما له أفراد المجتمع وهو منشغل بالنضال المزري أكثر من انشغاله بعمله التربوي؟. وإن المعلم الذي يرضي أن يقرن اسمه بلازمة: “المناضل النقابي” السفلى بدل صفة: “المربي” العليا، وأن يعزّى بهذه اللازمة وأن يؤبّن بها سيعيش منسيا وبلا إشارة تحيي ماضيه، ولن يكون له ذكرٌ محمود ولو مات شهيدا في سبيل نضالاته.

للمدرسة عقلٌ يشتغل وقلب ينبض وأحاسيس تحسن التمييز وذاكرة حافظة لا تزيل ما ينقش على صفحة رخامتها، وهي لن تمنح اعترافها ولن تتذكر إلا المعلم المثالي الذي خدمها في تفان. وأما المعلم “المناضل” والمعلم الذي باعها بثمن بخس ودراهم معدودات، وانجرف مع سيل “الدروس اللصوصية” فلن تلبس ثياب الحداد لأي واحد منهما يوم أن يفارقها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • عزالدين أستاذ متقاعد

    تصحيحا لخطإ نحوي أدرج سهوا دون مراجعة للتعليق حتى لا أسيئ لأصحاب مهنة التلعليم نقول مصنفا بدل من مصنف .

  • عزالدين أستاذ متقاعد

    تأكيدا لما قيل ،أقول ما قاله القائل (شوقي): وإذا المعلم ساء لحظ بصيرة * جاءت على يده البصائر حولا
    لن يستقيم حال مدرستنا (المجتمع) ما دام المعلم مهدور الحقوق و مصنف في أدنى درجات الوظيف العمومي لن أضيف شيئا فلم تعد أقوالنا تسمع الآذان الصماء التي تنكرت للحق وأدار أصاحابها ظهورهم لمنابع العلم والمعرفة وراحوا يغرفون من ينابيع المزابل المتعفنة .....