-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المراجعة الدستورية.. رؤيةٌ نقديةٌ عامّة

ناصر حمدادوش
  • 1158
  • 5
المراجعة الدستورية.. رؤيةٌ نقديةٌ عامّة
ح.م

إنّ من أهمّ الاستحقاقات السّياسية لمرحلة ما بعد الثورات الشّعبية وعمليات الانتقال الديمقراطي هي الانحياز إلى فكرة الإصلاحات الدستورية بفضّ الغبار عن مساوئ الدساتير الشّمولية السّابقة، والتطلّع إلى أشواق الحرّية والديمقراطية والتنمية ولو من ناحية المكاسب القانونية النّظرية، إذ أنّ المدخل الدستوري هو من أهمّ المداخل في قياس مدى التحوّل الديمقراطي والتغيير الحقيقي. وهو ما يجعل هذا الاستحقاق يفرض العملية النّقدية الجادّة له، لأنّ رجل السّياسة والقانون يجب أن لا يكون مدّاحًا أو متزلّفًا، لليقين بأنّ مسودّة الدستور التي بين يديه ما هي إلاّ مجرد اجتهادٍ بشري قاصر، فتجده نقّادًا من أجل تجويد النّص الدستوري شكلاً ومضمونًا حتى لا تتكرّر نفسُ عمليات الغدر الدستوري السّابقة. وهو ما يضعنا أمام هذه الملاحظات النّقدية العامّة للمسودّة المطروحة للنّقاش الآن.

1- عدم تلازم السّلطة مع المسؤولية: فالمتأمّل في صلاحيات رئيس الجمهورية والتي كان يتمتع بها بوتفليقة، والتي هيمن بها على كلّ المؤسّسات والسّلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وبالرّغم من الوعود بإنقاصها من أجل القطيعة مع الحكم الاستبدادي الفردي، إلاّ أنّ لجنة الخبراء أضافت له 09 صلاحياتٍ جديدة. وبالرّغم من هذه الصلاحيات الواسعة للرئيس، إلاّ أنه لا يقابلها أيُّ تحمّلٍ للمسؤولية السياسية أو الجزائية أو القضائية وفق مبدأ تلازم السّلطة مع المسؤولية، فلا توجد أيُّ جهةٍ أو مؤسسةٍ في الدّولة تحاسب الرّئيس على ممارسته للسّلطة وتجعله يتحمّل المسؤولية عليها، لا سياسيًّا أمام البرلمان ولا جزائيًّا أمام القضاء ولا إداريًّا أمام المؤسّسات الرّقابية الأخرى، وأنّ المحكمة العليا للدولة المختصة بمحاسبة رئيس الجمهورية على الخيانة العظمى المنصوص عليها في المادة 191 قد تمّ التّنصيص عليها منذ دستور 1996م ولم يتم إنشاؤها إلى الآن، وسيكون مصيرُها بيد الجهاز التنفيذي، لأنّ الحكومة هي صاحبة الأولوية في وضع جدول أعمال الدورة البرلمانية وفق القانون العضوي النّاظم للعلاقة بينهما، كما أنّ هذه المادة تحصّن الرّئيس مطلقًا عمّا دون الخيانة العظمى، مثل: جرائم التزوير والفساد وسوء التسيير وتبديد المال العام وفتح المجال لانتهاك السيادة الوطنية والإضرار بالاقتصاد الوطني.. وغيرها، وهو ما يجعله محصّنًا دستوريًّا من المتابعة الجزائية عنها قضائيًّا، وعدم تحمّل المسؤولية بالمحاسبة عنها سياسيًّا؟!

2- هاجس استرضاء الخارج: وقد كانت تصريحاتُ رئيس لجنة الخبراء عن ذلك واضحةً وصريحةً، إذ يقول: “.. عملية وضع الدساتير لها خبراء عالميون مثل خبراء الأفامي، لو تعطيهم دستورًا لا يجدون فيه آليات الرّقابة ولا تكرّس الحرّيات فلن يعترفوا بذلك الدستور حتى ولو كان الأحسن في مجال فصل السّلطات، هذا الجانب أيضًا أخذناه بعين الاعتبار وعملنا قدر الإمكان على تفادي انتقادات الهيئات الأممية”. إنّ اختصاص رئيس اللجنة ومساره المهني يجعله مسكونًا بهذه الهواجس الخارجية، متأثّرًا بها وخائفًا منها، إلاّ أنّ السّؤال الخطير فيها هو: ما علاقة الأفامي كمؤسّسةٍ ماليةٍ دولية بوضع وقبول الدّساتير؟ وهل يدخل ذلك ضمن ابتزاز الدولة والضغط عليها والاستثمار في أزماتها المالية والاقتصادية للتدّخل في سيادتها الوطنية؟ وبالعودة إلى مسودة الدستور، فإننا نجد أمثلةً صارخة عن هذا الاسترضاء، ومن ذلك: دسترة الاتفاقيات الدولية وسموّها على الدستور والقانون والأحكام القضائية التي تصدر باسم الشّعب، وقضايا حرّية المعتقد وحرّية ممارسة الشعائر الدينية دون تمييز، وقضايا المرأة والأسرة وحذف رقابة المجتمع عليها، وفتح المجال للانحرافات الأخلاقية كالإباحية والشذوذ الجنسي في المادة 37 تحت ذريعة المساواة أمام القانون وعدم التمييز تحت أيِّ شرطٍ أو ظرفٍ شخصيٍّ أو اجتماعي، ومحاولة فرض حياد المؤسّسات الدّينية والتربوية باسم القيم العالمية المحايدة.

3- هيمنة ثقافة التّعيين على مبدأ الانتخاب، والتناقض بين المبدأ الدستوري والأحكام الإجرائية له: فالتعيين يكون مقبولاً في المناصب الإدارية والتنفيذية وليس في المجالس التمثيلية أو المؤسّسات والهيئات الرّقابية، والتي يُفترض فيها تجسيد المبدأ الدستوري في الاستقلالية والفصل بين السّلطات والتوازن بينها. وبالرّجوع إلى الصّلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية، فإننا نجد هذا التناقض بين المبدأ الدستوري وبين الأحكام الواردة في المسودة، ومنها: – هيمنة السّلطة التنفيذية على السّلطة التشريعية: عن طريق تعيين الثلث الرّئاسي المعطِّل في مجلس الأمّة بما يرهن البرلمان بأكمله (المادة:126)، وعن طريق الصلاحيات التشريعية للرئيس، إذ يشرّع بالأوامر الرّئاسية في الحالة الاستثنائية، وحتى أثناء أشغال البرلمان في المسائل المستعجلة، وهي غامضةٌ وغير محدّدة (المادة:146)، وهو يرأس السّلطة التنظيمية التي تشرّع خارج مجالات اختصاص البرلمان (المادة:152)، كما يمكنه أن يعطّل أيّ قانونٍ صادق عليه البرلمان بطلب القراءة الثانية له والتي يُشترط فيها الثلثان لتمريره، وهو شرطٌ شبه تعجيزي (المادة:154)، كما يملك الصلاحية المطلقة وغير المحدّدة في حلّ المجلس الشعبي الوطني والدّعوة إلى انتخابات تشريعية مسبقة (المادة:156). – هيمنة السّلطة التنفيذية على السّلطة القضائية والمؤسّسات الرّقابية: بما يفقدها الاستقلالية المزعومة، وذلك بتعيين القضاة، وترؤس رئيس الجمهورية (رئيس السّلطة التنفيذية) للمجلس الأعلى للقضاء والتعيين فيه، والتعيين في المحكمة الدستورية بما فيها الرئيس، والتعيين في المحكمة العليا ومجلس الدولة، والتعيين في الجهات والمجالس القضائية، والتعيين في مجلس المحاسبة، وكذا التعيين للأعضاء المسيّرين لسُلَط الضّبط.

4- تعثّر الوعود بالتغيير: ومن ذلك الإصرار على طبيعة النّظام السّياسي الحالي، والذي ثار الشّعب الجزائري ضدّه في المسيرات المليونية الحضارية يوم 22 فيفري 2019م. فلجنة الخبراء تعترف فتقول في معرض حديثها عن تقييد صلاحيات رئيس الجمهورية: “وقد خلُصت اللجنة بعد هذا النقاش إلى أنّ اعتماد مثل هذه القيود سيؤدّي إلى تغيير طبيعة النّظام السّياسي، وهو ما يخرج عن محاور رسالة التكليف..”، ثم تعترف بشكلٍ غريبٍ وعجيب أنّها تعتمد النّظام شبه الرّئاسي، وأنّه هو النّظام الحالي، فتقول: “وقد اتفق الأعضاء على ضرورة اعتماد النظام شبه الرئاسي، لأنه يُبقي على الشّكل الحالي للحكم لضمان وحدة السّلطة التنفيذية وانسجامها وترشيد نشاطها..”، وفي نفس الوقت تعترف في نفس الصفحة بأنّ نظام الحكم المنبثق عن دستور 2008م انحرف عن أهدافه وأدّى إلى اعتماد نظامٍ رئاسوي مفرط، مع أنّ التعديل الدستوري لسنة 2016م كان أكثر سوءًا منه. ومعلومٌ أنّ النّظام شبه الرّئاسي يفرض تقاسم المسؤولية في الدولة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المنبثق من الأغلبية البرلمانية وجوبًا. ولذلك، فإن تبنّي لجنة تعديل الدستور للنظام شبه الرّئاسي غير صحيح، لأنّ الرئيس غير ملزَمٍ بتعيين رئيس الحكومة من الأغلبية البرلمانية، إذ يكتفي بمجرد الاستشارة غير الملزِمة لهذه الأغلبية الغامضة، ولا يتقاسم معه المسؤولية في تسيير شؤون الدولة للفروق الجوهرية في الصلاحيات بينهما، كما أنّ البرلمان لا يمكنه محاسبة الحكومة ولا عزلها للتعقيدات الدستورية والقانونية في الجوانب الإجرائية للأدوات الرّقابية والتشريعية له.

إنّ الأصل في المراجعة الدستورية أنّها تذهب إلى إعادة الصّياغة الجديدة لمفهوم السّلطة والتداول السّلمي عليها، وتوفير المزيد من معايير الحكم الرّاشد، ومعالجة إشكالية تخلّف الدولة عن المجتمع، من أجل تحقيق الحرّية والديمقراطية والتنمية، إلاّ أنّ هذه المسودّة اتجهت نحو اختزال ذلك في تكثيف فكرة المركزية والشّمولية للسّلطة التنفيذية، وهيمنتها الأحادية على السّلطة والدولة معًا، وهو ما سيستنسخ نفس منظومة الحكم السّابقة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
5
  • عياش ب

    عجبا لهذه الأحزاب يدركون كل هذه الأمور ومع يشاركون في هياكل الدولة، والله لو انفردتم بالحكم لعملتم ما هو أخطر.

  • إسماعيل الجزائري

    مقبلون -لا قدّر الله- على كارثة حقيقية! ربي يستر . . . ستضيع المعالم و تعمّ الفوضى و لن نستطيع إيقافها.

  • أ.د/ غضبان مبروك

    شكرا لك الأستاذ ناصر. لقد أصبت وأصبت وكانت لك الشجاعة الوطنية والعلمية أن تنتقد عمل اللجنة وتفند آرائها العارية من الصحة العلمية والموضوعية.
    نعم عمل لجنة الخبراء معيب جدا وتبريرات رئيسها أكثر عيوبا.
    خلاصة المقترح هو زيادة في صلاحية رئيس الجمهورية دون أن يقابله تحميله المسؤولية. كذلك لايوجد هناك تقاسم للقوى بين السلطات الثلاثة وذلك لفقدان التوازن بينها من جهة ولغياب الرقابة المتبادلة من جهة ثانية. فبقيت السلطة التنفيذية هي أقوى سلطة وبصلاحيات تتجاوز حدودها لتتدخل في صلاحيات السلتطين الأخريين مما يعدم مبدأ الفصل.

  • احمد الجزائري

    أجدت الطرح، ولو أني أرى أن ما نحن فيه شرعنة لما هو قادم، ونحن أمام انسحاب جماعي من الفعل المؤدي الافضل، وصار الكل يبحث عن موقع له ضمن المنظومة الجديدة العتيقة

  • نحن هنا

    لم تتعرض لمحور الارتكاز الاصل وأسهبت في التفاصيل وكان حري بك أن تتحدث عن السلطة التأسيسية المغيبة فالمنحة من فضل المانح وإن شاء نكل