-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المشْـروعُ النّوفَمْبري بين باديـس وباريـس

أبو جرة سلطاني
  • 395
  • 2
المشْـروعُ النّوفَمْبري بين باديـس وباريـس
ح.م

الكلّ يسير.. والكلّ يهتف بحياة باديس وسقوط باريس، والكلُّ يتكلّم ويحلّل ويبادر ويقترح.. لكنّ الحلّ مازال بعيدًا. والتّوافق لم يحصل بعد؛ فكلّ مبادرة مرفوضة، وكلّ شخصيّة مطعونٌ في تاريخها وسيرتها ونضالها وقدرتها على إدارة المرحلة. وكلّ صوت هادئ متّهمٌ بالعمالة والخيانة والتّواطؤ، والرّغبة في الظهور وركوب الموجة.. والسّقف المرفوع غايته إسقاط النّظام الذي لم يتطوّع أحدٌ بتحديده: من هو هذا النّظام الذي يجب أن يسقط؟ هل هو الباءات الخمسة؟ أم هو العصابة التي نهبت أموال الشّعب؟ أم هم كلّ من شارك في التّسيير منذ فجر الاستقلال إلى يوم 22 فبراير؟

إذا ظلّ الأمر على هذا الغموض، فعلى هؤلاء جميعا حزم أمتعتهم والرّحيل إلى غير رجعة، وبعد رحيلهم سوف يتمّ ترحيل الأحزاب التّقليديّة، والنّقابات المنحازة، والجمعيّات، والتّنظيمات، والحركة الجمعويّة التي أكلت من ريوع النّظام المنتهيّة صلاحيته. فمنذ أزيد من أربعة أشهر، والجزائر تعيش غليانًا على جميع الصّعُد، وفي كلّ جمعة تعرف شوارعها مخاضا عسيرًا مبشّرًا بميلاد عهد جديد. والجميع يتحاشى الولادة القيصريّة، ويتوجّس من تحوّل القوّة الهادئة إلى تيّار هادر خارج عن السّيطرة، قد يفتح الطّريق لمن يحلمون بالعوْدة في أثواب الحمْلان. طيلة هذه الفترة سمعنا كلاما كثيرًا في الفضائيّات، وتابعنا تحاليلَ معادة، وتغريدات في مواقع التّواصل الاجتماعي، فيها كثيرٌ من الهمز والغمز واللمز.. وتابعنا أخبارًا سارّة على صفحات اليوميّات الوطنيّة، هي خلاصة ثلاثة تيارات غير متوازنة:
1ـ تيّار المنادين برحيل النّظام بقضّه وقضيضه.
2ـ تيّار الدّاعين إلى غربلة الموجود، وتنقيّة الأصيل من الدّخيل.
3ـ وتيّار الرّاغبين في العودة إلى فجر الاستقلال للتّأسيس لمفهوم الدّولة الوطنيّة.

إذا بقي التّدافع على مستوى الفكرة والرّأي، فلا أحد يملك أن يلْوي ذراع الشّعب، ولا أن يفرض عليه “مشْروع مجتمع” بديل، فأغلبيّة المتحرّكين ينادون بإرساء قواعد دولة نوفمبريّة باديسيّة، ويردّدون شعاراتٍ مناوئة لحزب فرنسا، ويرفضون أيّ تدخل أجنبيّ في شأن جزائريّ بحت، لا يدَ فيه للخارج، ولا قدرة للأقليّة النّافذة على أن تعيد خلط الأوراق، بعد أن عرّاها الحراك. كما فعلت في أكتوبر 88، وفي يناير 92. ولا طاقة لأصحاب نظريّة “المُجْتمع المفيد” أن يعيدوا إنتاج أنفسهم على طريقة “ثورة الزّيت والسكّر” سنة 2011. فقد استوعب الحراك الدّرس جيّدا، وتفطّن لخفايا لعبة صراع الأجنحة، وعرف وجوه العصابة، وحفظ أسماء الذين كانوا يعطون الإيعاز، ثمّ يخترقون الطّبقة السياسيّة والتّنظيمات المجتمعيّة، باسم المصلحة الوطنيّة. وصار تركيزهم على تحقيق هدف مشترك: هو رحيل العصابة بكلّ مكوّناتها ومقوّماتها. وحصّن نفسه بالألوان الوطنيّة دون سواها، حتّى صار أكبرَ حزبٍ معتمد شعبيّا منذ فجر الاستقلال: يتجمّع بكثافة، ويعبّر عن مطالبه بوضوح، وينصرف بسلاسة، دون أن يخلّف وراءه ما يستدعي أعوان النّظافة إلى تفقّد المكان.

في الذّكرى السّابعة والخمسين المخلّدة لاسترجاع السيّادة الوطنيّة، وفي غمرة الإشادة بمفاخر الثّورة، وبنعمة الاستقلال، وبفضل الشّباب.. تحيّة إعجاب وإكبار للشّعب الذي استرجع زمام المبادرة بقدرة هائلة على محاصرة الفساد، وفرض منطق التّغيير السّلمي بالتّقسيط المريح، وطمأن الرّأي العام بأنّ المغرّر بهم هم الذين كانوا يظنّون أن استقالة الشّعب من السّياسة معناها خلـوّ الجـوّ لهم، فاكتشفوا أنّ التّراجع ـ الذي كانوا يسمّونه عزوفاـ كان تكتيكا لكشف النّوايا الحقيقيّة لدعاة العهدة الخامسة، فلما تمّ إسقاطها بتلاحم الشّعب مع المؤسّسة العسكريّة ومع الأخيار في هذا الوطن، بدأت تتشكّل معالم مجتمع مغاير لِما كانت تروّج له قوّى التّحالف، في غياب أصحاب الحقّ. فصدمة 22 فبراير كانت إعلانا عن ميلاد “سلطة الشّعب” التي خوّله إياها الدّستور. ليقطع بها الطّريق أمام المتحوّلين سياسيّا، ويعلن بوضوح وحسم عن ثلاثة قرارات مصيريّة:
1ـ أنّ تسليم الحُكم للأغلبيّة الوهميّة زورًا هو الخطر الأكبر على الدّولة.
2ـ وأنّ الدّولة أكبر من رئيس، نجحت زمرة في محاصرته والتحدّث باسمه، فلما احتجب عن الشّعب ذلّ باحتجابه الوطنُ كلّه.
3ـ وأنّه صار من حقّ الشّعب أن يقول كلمته في الرّجال والبرامج والسّياسات..

في ذكرى الاستقلال تبدأ مسيرة إعادة بناء الدّولة التي كانت حلم الشّهداء بشعار: “دولة ديموقراطيّة اجتماعيّة ذات سيّادة في إطار المبادئ الإسلاميّة”. وهو مطلب تأسّس ليلة الثّورة، ولكنّه لم يتجسّد لأسباب يطول شرحُها، فقد اجتهدت قوّى كثيرة على تحريفه عن صياغته الأولى، بين مؤتمر الصّومام، ومؤتمر طرابلس ومفاوضات إيفيان.. ليتمّ تأجيله خلال المائة يوم الفاصلة بين وقْف إطلاق النّار ونشْر نتائج الاستفتاء حول تقرير المصير. وكان عذر الذين أجّلوا هذا الحلم أنّ بناء الدّولة يحتاج إلى إجماع وطني، وكلّ من يخالف هذا الخيار يقع خارج منظومة مجلس الثّورة. لكنّ الحلم تأجّل طويلا، وكلّما حانت فرصةٌ تاريخيّة لاستدراك ما فات، برزت قوّة متخندِقة لتزحزحه عن موقع الصّدارة، ليظلّ المشعل بيد واحدة ترفض تسليمه للأجيال. حتّى لاحت هذه السّانحة التي حاولت بعض القوّى المقاومة للتّغيير تحريفها عن أهدافها، لولا التحام قوّى الحراك بقوّة المؤسّسة العسكريّة لمحاصرة العصابة، وتحرير القضاء لتمارس العدالة واجبها الوطني في تعقّب الفاسدين ونهّابي ثروة الأمة واسترجاع المال العام.

اليوم انكشفت خيوط اللّعبة، وتساقطت رؤوسٌ كبيرة، والباقي أكثر وأوسع وأعمق وأخطر. لأنّ الحواجز الأخيرة مازالت عاليّة، وتجاوزها ليس بالأمر الهيّن، والزّمن لم يعد يجري لصالحنا جميعا، فإذا لم نبادر بفتح حوار واسع جادّ ومسؤول، في أقرب الآجال، فإنّ ارتدادات صعبة قد تدير ظهرها لمجريات الزّمن، فتخلط الأوراق وتعود بنا إلى نقطة البداية. صحيح لا يوجد ـ حتّى الآن ـ من يبحث عن التّصادم، لعلم الجميع أنّ فاتورته مكلفة جدًّا، ولا أحد يرغب في إعادة بعث سيناريو 92، ولكنّ ما كلّ ما يتمنّاه المرء يدركه. فالوعي الشّعبي مدرك أنّ الوقت ضاغط، وأنّ الفساد يعالج في أطُر قانونيّة تستوجب إجراءات احترازيّة، يكون من آلياتها استرجاع الأموال المنهوبة. لكنّ عددًا الذين استشعروا خطر التبدّد بدأ يتزايد، وقد يعيدون تنظيم أنفسهم.

واجب الوقت اليوم أنه يتوجّب على الحراك، وعلى أصحاب المبادرات جميعا، وعلى الطّبقة السياسيّة، والمجتمع المدني، وعلى النّخب والشّخصيات الوطنيّة، أن يتفّهموا طبيعة الوضع الجديد، الذي صارت عليه الجزائر، في ظل تربّص إقليمي قلِق، ودولي متطاول، ووعي غير مسبوق بحساسيّة ما يجري في الجوار، ليتعاونوا جميعا على تجسيد أولوية والأولويات، وهي انتخاب رئيس للجمهورية بآليّات جديدة. أولها إيجاد أجواء للتّفاهم والحوار. وثانيها التنازل المتبادل. وثالثها استبعاد لغة الإقصاء. ورابعها الاستجابة لمطالب الحراك الذي ينادي بدولة نوفمبريّة، وفاءً لمن حرّروا هذه الأرض من مستعمِر الأمس، الذي أُخرِج من الباب الضيّف بفاتورة ثقلية جدّا، وهو يحاول اليوم أن يعود من ثغور خفيّة يفتحها له أقوامٌ يتستّرون خلف الدّيمقراطيّة وهم لا يؤمنون بها. ويرفعون شعار حقوق الإنسان، وهم من داس عليها لما كان الصّولجان بأيديهم. ويهتفون في النّهار بحياة الجزائر، وفي الليل ينسّقون مع عدوّ الأمس عساهم يمدّ لهم يد العون التي ألفوا تقبيلها كلما حزَبتْهم الخطوب.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • djamel eddine

    عيب عليك، المفروض تنعزل في بيتك و تستغفر المولى عز و جل. تاكل الغلة و تسب في الملة. كنت تطبل لفخامته و الان اصبحت تحلل و تناقش. كيف كنت و كيف اصبحت يا بوجرة.

  • الواضح الصريح

    ( بين المحكمة والحراش ياتي الحل ) الكل يتمنى الحل ويتساءل عن كيفية الوصول إليه ؟ الحل سيأتينا من اجتماع الحراش ، يوم يتم إيداع كل عناصر العصابة مصدر الفساد العام المعمم ستبزغ شمس أشعة عمل الأحرار من الرجال . من أدخل فاسدا واحدا للحبس يكون حرر مئة ألف رقبة من الأستعباد ومن أدخل متآمرا فاسدا وكوكاييني معتمد يكون أحيا 42 مليون نفسا جزائرية طيبة الأعراف .