-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المفكر الأستاذ عبد الحميد مهري.. السياسي الاستثنائي

لمباركية نوّار
  • 1018
  • 0
المفكر الأستاذ عبد الحميد مهري..  السياسي الاستثنائي
ح.م

لا يجدي التعريف الكلاسيكي الرتيب بلوازمه وبنوده، نفعا لما تدور دفة الحديث عن المفكر الأستاذ عبد الحميد مهري وعن أمثاله من القامات الذين تركوا بصمات راسخة وأمارات واضحة في أوطانهم وخارجها. ومن المفيد البحث عن منهج آخر لعرض مراحل مسيراتهم النضالية التي جعلت منهم منارات للاسترشاد وأُسى للاقتداء.
من تسوقه الرغبة الملحة لمقاربة شخصية الأستاذ عبد الحميد مهري تعجزه بغية الإحاطة الكليانية بكل عناصرها.

ومع ذلك، فإننا نحاول أن نقتحمها بما يلي: (الأستاذ عبد الحميد مهري مثقفٌ عضوي ملتزم بهموم وقضايا أبناء وطنه، وناظر فيها نظرة المنقذ في كل دورات التاريخ التي عايشها. وهو واحد من كبار حرّاس الوعي الوطني والقومي. ولا تتداخل عنده المشكلات حين قراءتها لأنه لا يُخرجها من سياقاتها الأصلية، ويرفض عزلها عن ماضيها وجذورها، ولا يعالجها سوى علاجات نسقية متكاملة، ولا يجابه الأحداث بعد قراءتها بذهنية واعية إلا حاملا تحت إبطه الحلول الذي تناسبها، ويميل إلى إصدار الأحكام النسبية بدل القطعية ما يمنح للموضوعية عنده كل أبعادها وشروطها الظنية، ويستحضر من مواقف الأشخاص والهيئات الإيجابيات والسلبيات، ولا يفر من البحث عن المبررات والأعذار لردم عثراتها وترميم أماكن سقوطها في الخطإ، ويستغرق في التحليل والتفسير أكثر مما يصرفه في منح علامات التقويم. ويصدف عن التشخيص؛ لأنه يقتل الأفكار في رأيه، ويمقت الإساءة والبذاءة والتجريح، ولا يتردد في البحث عن نقاط التقاطع والتلاقي والاتفاق مع غيره كلما وجد إلى ذلك سبيلا. وهو رجل حوار من طراز أنيق، لا يملّ منه ولا يتخلى عنه؛ لأنه يرى فيه أرقى الوسائل الحضارية للقضاء على الخلافات، ويشترط فيه أن يكون منزَّها عن الخلفيات والأحكام المسبقة والخدع والتلاعب. وهو صاحب محبرة مملوءة وقلم مبري ومصقول، يحسن التعابير ويدقق في انتقاء الألفاظ والمفاهيم، وهو ذو قدرةٍ جامعة بين الممارسة السياسية والفكر السياسي في أصالة وانفتاح، وهو مناضلٌ صبور، لا يضجر ولا يجزع ولا يشطط ولا يغادر حدود الأدب واللباقة مهما كان الظرف، وهو من المؤمنين بالديمقراطية ومتطلع إلى التداول على السلطة في الحكم، وقد أحبه أبناء شعبه؛ لأنه ظل متجاوبا في صدق مع رغباتهم وآمالهم وأحلامهم، وعاش قريبا منهم في تواضع نادر وعفة يد وطهر فؤاد، ولهذا سيظل المفكر الأستاذ عبد الحميد مهري حيا في القلوب والوجدان، ولا يمكن للموت تغييبه وإسقاط صورته من الأذهان…).

تراءت لي محاولة الدنو أكثر من شخصية الأستاذ عبد الحميد مهري من خلال مدخلين اثنين. ويمكن تعليم المدخل الأول بطرح السؤال الموالي: ما الظروف والعوامل التي تكاثفت وساهمت في عجن وصقل شخصية المفكر الأستاذ مهري؟.

في لائحة أولية تقبل التنقيح والإضافة يمكن أن نحدد جملة العناصر التالية:

تنتمي عائلة الأستاذ مهري إلى مشتلة شريفة وأرومة عطرة، إذ ينتهي نسب جده الأول سيدي عطية دفين مدين “الدوسن” الواقعة قرب طولقة إلى السيد الحسين بن فاطمة الزهراء بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كما هو مذكورٌ في كتب الأنساب، ومنها كتاب الشيخ حشلاف قاضي الجلفة ونواحيها الذي وضعه في نسب الأشراف.
امتلكت عائلتُه تراثا معنويا وأدبيا من المجد الوطني الناصع؛ إذ أن جدَّه الشيخ عبد الله شارك في ثورة الشيخ ابن الحدّاد وفي ثورة المقراني ضد الاستعمار الفرنسي، ما يعني أن ذويه يأبون الضيم ويرفضون الذل والاستعباد.
نشأ الأستاذ عبد الحميد مهري في أسرة محافظة ومتدينة تقدس العلم، ووفية لعناصر هُوية الشخصية الجزائرية ولقيّمها الوطنية من دين ولغة وانتماء وتقاليد وعادات جميلة. وهي أسرة تجاوزت، بفضل وعيها الرفيع، مرحلة الامتثال لهذه الثوابت والقيم، وانتقلت إلى مرحلة الدفاع عنها، وإبعادها عن المسخ والتشويه والمحو، فوالده الشيخ عمّار المهري العطوي (الحرّوش في ضواحي سكيكدة 1887م ـ وادي الزناتي 19 أفريل 1933م) ساهم مساهمة وطيدة لا مهادنة فيها في مغالبة القهر الذي أراد الاستعمار الفرنسي أن يفرضه بالتشارك مرة وبالإدماج مرة أخرى على الشعب الجزائري الذي سلبت إرادته. وقد زاول دراسته على يد الشيخ حمدان لونيسي مؤدب الشيخ عبد الحميد بن باديس، وهو من أجازه قبل هجرته إلى المدينة المنوّرة. وشارك في قدح شعلة الحركة الإصلاحية الدينية والاجتماعية والتربوية في مدينة الخروب القريبة من مدينة قسنطينة. وأشاع فيها حراكا تثقيفيا واعدا استقطب أنظار طلبة العلم من نواحي كثيرة من عمالة قسنطينة، وقتذاك. وعاود نفس الكرة السابقة بهمة أرفع وجهد مبذول مضاعف في مدينة وادي الزناتي من ولاية قالمة حاليا التي وصلها في سنة 1926م، وهي نفس السنة التي ولد فيها ابنه عبد الحميد. وقد دعاه بهذا الاسم تيمنا وتبركا باسم الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي كانت تربطه به علاقة صداقة. ومن مواقفه المشهودة وقوفه في شجاعة مع الأهالي في وجه الاستعمار الفرنسي حين فرضه قانون التجنيد الإجباري على الشباب الجزائري تحت ألوان الراية الفرنسية في سنة 1912م. وهو القانون الجائر الذي تسبَّب في زعزعة البنية الاجتماعية للأسر الجزائرية، ودفع بشبابها إلى اللوذ بالجبال للاختباء والهجرة الاضطرارية خارج الوطن. وقد دبَّج عريضة وأمضاها مع أعيان مدينة الخروب، وقدَّموها إلى الوالي العام بالجزائر كما فعل الشيخ عبد الحليم ابن سماية مع وجهاء مدينة الجزائر. ولا يجوز أن ننسى صداقته مع الأمير خالد حفيد الأمير عبد القادر الجزائري الذي بذر برفقته أولى بذور الحركة الوطنية الأولى. واستمرت العلاقات بينهما قوية حتى أبعدت فرنسا الأمير خالد من الجزائر إلى سوريا. ويذكر أنه كان من أدباء الجزائر في مطلع القرن العشرين، وكان له إنتاج وفير في الشعر السياسي الوطني والقضايا الاجتماعية. وكان يوزع نشر أعماله بين جريدة “الفاروق” لصاحبها عمر بن قدّور الجزائري وبعض جرائد الشام وجريدة “النجاح” وجريدة “الإقدام” التي أسسها صديقه الأمير خالد. وكان يتخفى أحيانا وراء أسماء مستعارة مثل: “أبو الهول”.

على درب والدهما، سار أخوه وكفيله الشيخ مولود مهري (الحروش 1908ـ قسنطينة 1994م). فبرغم مضايقات المنع الظلومة، أسس مدرسة “التهذيب” التي لم تكن تنهج نهج مدارس التربية والتعليم التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وإنما كانت تتقاطع معها في الأهداف التربوية، وأثرى خزانة كتب الأسرة التي حوت أمهات العناوين في مختلف العلوم ومخطوطات كثيرة منها مخطوط يعود إلى القرن السابع الهجري. وكان أفراد الأسرة يسمون هذه الخزانة بـ”خزانة العلم الشريف”، وينظرون إلى ما تحمله رفوفها نظرة وقار وصل إلى حد التبرك بها.

لقي الأستاذ عبد الحميد مهري عناية وحصانة من طرف أخيه غير الشقيق الشيخ المولود مهري الذي تولى تنشئته تنشئة مستقيمة وأقبل على تربيته وتعليمه بعد وفاة والده. وبرغم كثرة انشغالاته، إلا أنه ساهم في تأسيس جمعيات أخرى ذات طابع ديني واجتماعي. وقد وجد في صديقه المؤرخ عبد الرحمن بن العقون العضد المعاون والظهير المساند. والشيخ المولود هو الآخر شاعرٌ وأديب من طراز عال. ونال إجازته في الشريعة واللغة العربية على يد الشيخ الطاهر بن عاشور المدرس في جامع الزيتونة العامر.

أخذ الأستاذ عبد الحميد مهري مكتسباته المعرفية من أفواه طائفة فذة من المعلمين والمربين المتصفين بامتلاك نواصي العلم وبالتقوى، ومنهم شقيقه الشيخ المولود الذي جلس في حلقاته، والشيخ الشاعر والمؤرخ عبد الرحمن بلعقون والفقيه المتصوّف عمر بوحفص الزموري. وأقدم، ومنذ نعومة أظافره، على ممارسة رسالة التعليم، فقد جلس يعلم الصبيان القرآن الكريم في سن الرابعة عشر، وأمّ جموعَ المصلين في صلاة التراويح في نفس المرحلة العمرية. وزاول التدريس الابتدائي في مدرسة “التهذيب” وهو شاب. وكان من مؤسسي فوج “الضياء” الكشفي في مدينته وادي الزناتي.

احتك الأستاذ عبد الحميد مهري بالحركة الوطنية باكرا بتشجيع وتوجيه من أخيه الشيخ المولود الذي كان عضوا نشطا وحركيا في حزب الشعب الجزائري. وشارك تحضيرا وحضورا في أحداث الثامن ماي 1945م، وسار في الصف الأول للمنتفضين الرافضين لسياسة الاستعمار.

التحق الأستاذ عبد الحميد مهري، بعد الحرب العالمية الثانية، بجامع الزيتونة، ومكث فيه خمس سنوات كطالب منضمّ ثم كطالب منتسب. وساهم في نشاطات الطلاب الجزائريين هناك، وبرز كشخصية توفيقية بين التيارات المتصارعة، وخاصة بين طلبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والطلبة المتشبِّعين بأفكار حزب الشعب الجزائري. ونظرا لمؤهلاته، كلف بمهمة تمثيل حركة انتصار الحريات الديمقراطية أمام الحزب الدستوري الحر وهو شاب يافع طيلة مدة إقامته في أرض تونس. ووفر له المناخ الملائم نسبيا في تونس فرصا لمراكمة ذخيرة تكوينية مصفاة جمع فيها بين ركنيها التقليدي الأصيل والعلوم الحديثة.

تعلم الأستاذ عبد الحميد مهري من متابعاته من قبل الإدارة الفرنسية دروس الثبات والصمود أما الجور والطغيان والمحن. واستفاد من تجربة السجن القاسية التي عانى منها في بداية الثورة (من ديسمبر 1954 حتى ماي 1955م) في التقرب أكثر من أفكار المستعمر التي قرأها في تصرفات جلاديه، وفي سبر أغوار غاياتها وأسرارها المبنية على الازدراء والتعالي والاستبداد والقهر.
.. يُتبع

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!