-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المفكر الأستاذ عبد الحميد مهري..السياسي الاستثنائي (2/2)

المفكر الأستاذ عبد الحميد مهري..السياسي الاستثنائي (2/2)
ح.م

المدخل الثاني الذي عنيته في هذه المقاربة التي أحاول من خلالها الدنو من شخصية المفكر الأستاذ عبد الحميد مهري، رحمه الله، يمكن أن يوجز في السؤال اللاحق: ما هي أجل مزايا المساهمات الكتابية في الإنتاج الفكري للمفكر الأستاذ عبد الحميد مهري؟.

طرق الأستاذ مهري باب الكتابة في الجرائد الوطنية في وقت مبكر من عمره؛ لأنه رأى في الكلمة المكتوبة والمنشورة أداة من الأدوات الخادمة لنشر الوعي بعد أن تلامس طبقات عريضة من الشعب حتى تجعلها تتجاوب مع محيطها، وتستيقظ من سباتها، وتعد عدّتها، وتوجه بوصلة اهتمامها صوب الأهداف الوطنية المشتركة السامية. وهو إن يفعل ذلك، فكأنما يشعر بأنه يؤدي واجبا ويسدد ديْـنا. وقد شارك في تحرير جريدة “المنار” مع الشيخ محمود بوزوزو، وساهم بالكتابة في جريدة “صوت الشعب” لسان حال حركة انتصار الحريات الديمقراطية.

وقرأت مرة أنه نشر مقالات في مجلة الرسالة الثقافية التي أسسها الأديب المصري أحمد حسن الزيات (1885ـ 1968م) في عام 1933م. ولكنني لم أتمكن من العثور عليها.

يكتب الأستاذ عبد الحميد مهري بأسلوب علمي متين ومتماسك، خال من الحشو والتكرار، أي يبتعد فيه عن زيادة اللفظ عن المعنى زيادة متعبة ولغير فائدة مرجوة، كما يقول اللغويون. ويجرد كتاباته من التعقيد والغموض، ولا يستعمل فيها الغريب والمهجور والمبهم من الألفاظ. وينشئ أفكاره في كتاباته إنشاءً صلبا وصريحا حسب المقصد الذي يريده. وله قدرة كبيرة على الاقتصاد التعبيري بعيدا عن الإنشائيات الفارغة، بمعنى أنه يبني الفكرة الواحدة في أقصر الجمل، وبأقل عدد من الكلمات، حيث لا تضاعف فيها ولا ترادف، ولا لف ولا دوران. وهو يكتب لأهل اللغة كما يكتب لأصحاب الفكر والسياسة.

تغلب على أسلوبه سِمتَا جوامع الكلم والسهل الممتنع، فظاهره سهل وباطنه شاق عصي. ولذ يجد قارئه متى ما أراد أن يتفاعل إيجابيا مع كتاباته ويتمثلها، يجد نفسه مدفوعا في رغبة واضطرار لمعاودة قراءتها مرة ثانية أو أكثر. وفي كل مرة يكتشف في خبايا سطوره فهما جديدا أوغلَ وأعمق من سابقه. ويميل إلى إشراك قارئه في إيجابية بليغة في ما يكتب، وذلك من خلال السؤال أو الأسئلة التي يطرحها؛ ومثلما يقال في فن التعلم “البيداغوجيا”: (كل درس هو إجابة عن سؤال)، فعنده كل مقالة عبارة عن إجابة عن سؤال مثير ومقلق. وأحيانا، يبرز هذا السؤال في عنوان مقالته ويقذف به مسبقا؛ لأنه يرى في السؤال فعلا تحريضيا للقدرات الذهنية حتى يظل القارئ متابَعا وطامعا في جمع عناصر الإجابة عنه. ولذا تجد قارئه يضطر إلى الوقوف بعد كل جملة وأخرى يتلقفها، أو فقرة وأخرى يمرُّ بها حتى يدقق ويركز أو يرتب حصائل ما حصد من قراءته.

يُعَدّ الأستاذ مهري كاتبا جادا ومتقنا لصنعة الكتابة كالأقدمين. وهو لا يكتب للمتعة والترف والتسلية. ويبدي تمكنا وتحكما في توظيف الألفاظ والمفاهيم والمصطلحات توظيفا دقيقا، ويُنزلها منازلها التي تصلح بها، ويطرد الشاذ والمستهجن منها حتى لا يُتعب قارئه أو يورطه في الثقل والاستكراه، أو يكبله بالملل. ولا يفرط حتى في تثبيت علامات الترقيم التي تزيد في درجة الفهم، فحتى الفاصلة لا يضعها إلا في مكانها الذي يليق بها إلى حد أنه لا يمكن استبعادُها أو الاستغناء عنها أو تغيير موقعها.

يغرف الأستاذ مهري في كتاباته، ومن أجل تقريب الفهم من الأذهان وحصره، يغرف، أحيانا، من ذخائر التراث الشعبي المتداوَل؛ ما يعني أنه صاحب ثقافة اجتماعية غنية. وهو لا يكتب لطبقة معينة من القراء دون أخرى، ويقرأ حسابه لتنوّع المتلقين واختلاف مستوياتهم، ويجتهد في إشباع نهم كل واحد منهم. ولا يبخل بإحضار النكتة الطريفة والطرفة الظريفة في كتاباته عن قصد ولغاية يبغيها. والنكتة أو الطرفة التي يدسُّها بين سطور مقالاته هي من الصنف التي تشيع بالفائدة، وتختصر الطريق لبلوغ مرافئ الفهم، وتنير الفكرة أكثر. وقد تكون وسيلة لجذب القارئ وتقوية تفاعله وتعلقه. ففي مقال وهبه عنوان: “لا ننسى أن الاستقلال يزيد وينقص”، روى في مدخله نكتة أوردها كما يلي: (تداول الناس، في السنوات الأولى من الاستقلال، هذه النكتة: سألت امرأة عجوز عن سبب احتفال سكان قريتها يوم الاستقلال، فقيل لها، تبسيطا، إنه يوم نهاية الاستعمار. فسألت على الفور: ومتى ينتهي الاستقلال؟.). ولكم أن تستشعروا كم في هذه النكتة من وحي ومعنى؟. وما أصعب النكتة لما تصيب جسدا فتسلط عليه لذعا يؤلمه ولا يدميه.

يملك الأستاذ عبد الحميد مهري براعة في نحت المفاهيم والترويج لها في كتاباته، وفي ترحيل بعضها من بيئاتها الأصلية إلى بيئات أخرى جديدة. ومن ابتكاراته في هذا الجانب نذكر: البطالة الفكرية، السلطة الفعلية، ديمقراطية الواجهة، أخلقة الحياة السياسة، بيت الطاعة (بالمعنى السياسي)، التدويل الانتقائي، المسار الديمقراطي (بدل المسار الانتخابي)، العنف (بدل الإرهاب)، الحريات التعليماتية… كما أنه متفوِّق في نسج الأقوال التي تتلقفها الأذهان بسرعة، وتخلد جارية على الألسن، وتُقتبس للاستشهاد. ومن أقواله التي شغلت الناس وما تزال قوله المحفوظ والشهير: (نحن في زمن الرداءة، وللرداءة أهلها)، وقوله الآخر: (إن الديمقراطية التي تحرسها الدبابة هي ديمقراطية مريضة).

لا يتردد الأستاذ مهري في استدعاء الكلمات الخالدة والأحداث التاريخية المشهودة واسترجاعها بعد أن يجري المطابقة التي يراها مناسِبة ومتساوقة مع السياق الذي يشقه في كتاباته، ومن ذلك قوله في مقالة منحها عنوان: “بين نوفمبرين”، قوله: (إن هذا الشعب، أيها المسؤولون، هو الذي صنع نوفمبر العظيم، وهو قادر على صنع أمثاله… أعطوه الديمقراطية الحقة يعطيكم نوفمبرات… ألقوا بالديمقراطية إلى الشارع، وسيحتضنها الشعب كما احتضن الثورة… لا تحاولوا التحايل على آمال الشعب في الحرية والديمقراطية، فقد أعطى الله هذا الشعب القدرة على التمييز بين الخبيث والطيِّب، بين الصدق والكذب، بين الحق والباطل… احتفلوا ما شئتم بنوفمبركم، فالشعب يحتفل بنوفمبر آخر، نوفمبر تعود له فيه كل حرياته، ويعود له الحق في تقرير مصيره الذي صنعه بمليون ونصف مليون من أبنائه).

يتمتع الأستاذ مهري بقوة رفع الحجة الدامغة والإثبات القاهر في كتاباته. وكلما انبرى قلمه للرد إلا وأفحم وأسكت مناوئه؛ لأنه يصعب الطعن في حججه المكسوة باليقين، والتي لا يتسلل إليها الشك والامتراء. ويمكن أن نجد في مقاله: “بين صانعي المؤامرات والواقعين فيها” ما يؤكد ذلك.

يبتعد الأستاذ مهري في كتاباته عن الخدش في الأعراض والهمز واللمز والتهجم والتشخيص والإساءة والقدح والتشهير بالأسماء؛ لأنه يؤمن بأن الفعل السياسي لا يقوم ولا يزدهر إلا إذا ارتدى حلية الأخلاق الرفيعة، وأن الكلمات الحادة والجارحة تُحرج مستعملها أكثر مما تحرج المعني بها. ولطالما نادى بتفادي العنف اللفظي الممهِّد للعنف المادي وبأخلقة الحياة السياسية وتخليصها من المكر والخديعة والكذب والمراوغة والتسويف والدجل. ولو عملنا بنصيحته ما كان حال الوطن يسقط في التردي الذي أضرَّ بسمعته وتاريخه.

حسبك أن تلاحق، اليوم، من شئت من أي طبقة من طبقات الناس، أن تلاحقه بالسؤال عن مهري، فلن تلقى منهم جميعا سوى المحبة والإعجاب والاستعذاب والذكر الحميد. ولن تجد لدرجة الرضى التي يقابلون بها اسمه كفؤا من بين كل السياسيين ورجالات الفكر الذين عرفتهم الجزائر.

شكلت الروافد التي سقت شخصية المفكر الأستاذ عبد الحميد مهري بماء فرات زلال فيه عصارة صافية من روح الوطن، شكلت منه رجلا سياسيا استثنائيا، ومفكرا عبقريا فريدا. وجعلت منه وحده مدرسة متميزة بين أبناء جيله، ومعلما قديرا لكل الأجيال. وبذلك، استطاع أن يعيد لحزبه جبهة التحرير الوطني مجده وشرفه من جديد في تسعينيات القرن الماضي برغم أسهم الغدر التي اخترقت جسمه ومزَّقته وأوهنته. وقد أضاف بعطائه الناعم إلى إرثه التاريخي الحافل قسطا آخر من الميراث الفكري والأدبي. ولا أتصوّر أن هناك من يفري فريه ليكمل مشواره طالما أن الأفكار تعاني من احتباس في الجريان وتشكو من انقطاع في السيلان، وأن الخطاب هو أشبه بالمواويل المكرورة التي لا تدفع عطشا ولا تقطع جوعا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!