-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الملك المهندس!

الملك المهندس!
ح.م
المؤتمن قدم دراسة للنتيجة الهندسية المعروفة بنظرية الإيطالي جيوفاني تشيفا

هذا الذي يُلقّب بالملك المهندس هو الأندلسي أبو عامر بن المنذر، الملقب بالمؤتمن بن هود المتوفى عام 1085م، وهو الابن الأكبر لأحمد المقتدر. وكان المؤتمن ثالث ملوك عائلة بن هود التي حكمت إقليم سرقسطة بالأندلس ما بين 1039م و 1146م. وقد غطت عهدة حكمه الفتـرة الممتدة من 1081م إلى 1085م. وما يميّز هذا الحاكم عن غيره من الملوك أنه انشغل بالرياضيات وأسهم في تطويرها! ورغم ذلك لم يرِد كثيرا ذكر المؤتمن على لسان المؤرخين حيث اكتفوا بإشارات خفيفة إلى أعماله العلمية.

مكانته العلمية

وفي هذا السياق، يُستشف مما كتبه مؤرخو ذلك الوقت أن بعض العلوم، مثل الطب والفلسفة والرياضيات، لم تكن ذات شأن كبير في الأندلس حتى منتصف القرن 9م. ولم يبرز وينتشر الاهتمام بتلك العلوم إلا بعد أن جُلبت كتب ومؤلفات علمية مشرقية. ومن جهة أخرى، يشهد من عاصر المؤتمن أنه كان شابا متميزا بسعة اطلاعه في شتى أنواع العلوم.

ويرجع اهتمام المؤتمن بالعلوم إلى أبيه الذي كان يرعى العلماء ويلّم بعلوم مختلفة. وبهذا الصدد يذكر المقّري التلمساني (المتوفى 1632م) بخصوص المكانة العلمية لوالد المؤتمن، على لسان أحدهم : “هل لديكم في علم الفلك، وفي الفلسفة والهندسة ملك كالمقتدر بن هود، سيد سرقسطة، الذي كان صاحب باع وذراع في هذا الميادين؟”. لقد اشتهر المؤتمن بكتاب “الاستكمال” ونوَّه به العديد من العلماء المغاربيين. وكان هذا الكتاب متداولا لدى العلماء خلال القرون الوسطى، وكان يُدرّس محتواه بالمغرب.

وعندما أشار ابن خلدون إلى المؤتمن ومؤلفاته قال : “وهلك أحمد المقتدر … فوُلِّي بعده ابنه يوسف المؤتمن. وكان قائما على العلوم الرياضية وله فيها تأليف مثل الاستكمال والمناظر…”. ولعل ما جعل حدث وفاة المؤتمن لا يلفت الانتباه كثيرا هو كونه رحل في نفس السنة التي سقطت فيها طليطلة. ومن المعلوم أن سقوط طليطلة في أيدي المسيحيين قد حوّلها إلى مركز هام للترجمة من العربية إلى اللاتينية والعبرية. وهكذا تمّت ترجمة أزيد من 100 كتاب خلال عدة عقود.

كتاب “الاستكمال”

هناك شهادات أخرى تثبت أن كتاب “الاستكمال” وصل إلى المشرق، وكان محلّ اهتمام العلماء إذ يشير ابن الأكفاني (رياضي عراقي من القرن 14م) في موسوعته إلى عمل المؤتمن بالقول : “ولم أر إلى الآن كتابا يشتمل على هذه الأجزاء العشرة. لكن لو كمل تصنيف الاستكمال للمؤتمن بن هود، رحمه الله، لكان كافيا مغنيا”. أما العالم الشهير الأندلسي المغربي يوسف بن عقنين (المتوفى 1220م) فيقول : “ونحن نرشدكم إلى كتاب جمع فوائد الهندسة كلها باختصار التطويل وقصر الإيجاز في براهينه. يتبيّن من براهين أشكاله علوم انطوت تحت كل برهان منها فهو كتاب الاستكمال للمؤتمن بن هود ملك سرقسطة، لا يعدله شيء وجيز اللفظ نبيل البرهان”.

لم يتوصل المؤرخون إلى معرفة متى بدأ المؤتمن التأليف إذ هناك القليل من المؤلفات التي تتحدث عن نشاطه العلمي وفضلت إبراز نشاطه العسكري، وكونه كان محاطا بالشعراء والعلماء والمستشارين العرب والمرتزقة المسيحيين. وعلى كل حال، فالظاهر أن المؤتمن لم يتمكّن من التوفيق بين الاهتمام بالعلم وتسيير شؤون الدولة بعد تولّيه الحكم. ويرجّح بعض المحققين أن المؤتمن بدأ تأليف كتابه قبل تولّيه الحكم.

كان المؤرخون قبل نحو ثلاثة عقود لا يعرفون سوى عنوان الكتاب والبعض من عناوينه الفرعية، ولم يعثروا على مخطوط له. وكان المؤرخ الفرنسي جورج سرتونSarton  (1884-1956) قد أشار في مطلع القرن العشرين إلى أهمية هذا الكتاب، وذلك ما ذهب إليه آخرون بعده.

والجميل أن الباحثين المعاصرين الجزائري أحمد جبار والهولندي يان هوخندايك Hogendijk تمكَّنا من العثور على نسخة من مخطوط كتاب “الاستكمال” في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين. وعندما تمت مقارنة نسخ من المخطوط عُثر عليها في دمشق والقاهرة وليدن (هولندا) وكوبنهيغن تأكد المؤرخان أن الأمر يتعلق بنسخة من كتاب “الاستكمال” للمؤتمن! وقد خصّص هذان المحققان عديد البحوث لهذا العالم، وكان كتابه موضوع العديد من رسائل الدكتوراه. وتُبيّن هذه الأبحاث أن مخطوطة “الاستكمال” أتت بعمل أصيل. وكان الملك المهندس يأمل في أن يجمع في كتابه الأدوات التي اعتقد أنها ضرورية لتكوين باحث في الرياضيات وعلم الفلك والفيزياء.

جيوفاني تشيفا؟

ينبغي الإشارة إلى أن مكتبات وجهاء الأندلس قد احتوت على العديد من المؤلفات العلمية التي جمعها الخليفة الأموي الحكم الثاني (905م-976م) طوال حكمه. والراجح أن المؤتمن يكون قد اطلع -بحكم انتسابه إلى الأسرة الملكية- على تلك المؤلفات. ومهما يكن الأمر، فالمؤرخون يؤكدون بأن المؤتمن قد اطلع على كتاب “المناظر” لابن الهيثم (965م-1039م) واعتمد عليه في أعماله.

لقد قسّم المؤتمن الكتاب إلى جزئين، جاءت في أولهما نحو 400 قضية ونظرية عكف المؤتمن على تقديم البراهين فيها بدقة عالية. أما الجزء الثاني فلم يصل، حسب علمنا، إلى أيدي المؤرخين إلى اليوم. واستنتج هؤلاء الخبراء من محتوى الكتاب أن الترجمات العربية التي أنجزت في المشرق لأعمال الإغريق قد نُقل بعضها، على الأقل، إلى الأندلس.

 ومن أعمال المؤتمن الأصيلة، نجد بوجه خاص دراسته للنتيجة الهندسية المعروفة لدى المعاصرين بنظرية الإيطالي جيوفاني تشيفا Ceva (1647-1734) التي ظهرت لأول مرة عام 1678. والجميل أن كتاب “الاستكمال” يتضمن برهانا دقيقا لها قدّمه المؤتمن قبل ستة قرون ونصف من وفاة جيوفاني تشيفا!

ومهما تكن عبقرية هذا الملك العالم، فلا بد من الإشارة إلى أنه لم يكن منعزلا في الحقل العلمي حيث عرف عهده العديد من العلماء الآخرين الذين اشتغلوا بالهندسة وغيرها. ومن المعلوم أن المؤتمن قد فشل في حساب مساحة ما يُعرف بالقطع الزائد. لكنه تبيّن فيما بعد أن الموضوع الذي فشل فيه يتطلب ظهور مفاهيم رياضية جديدة لم تكن متوفرة آنذاك، ولم يتوصّل إليها الرياضيون الغربيون إلا بعد وفاة المؤتمن بعدة قرون.

أليس من حقّنا أن نفخر بهذا الملك المهندس المغمور… فريد زمانه وزماننا… واليونسكو تنادي بالاحتفال باليوم العالمي للرياضيات؟

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • رضوان

    بارك الله فيك أستاذ، تستحق مقالاتك أن تجمع في كتاب بعنوان" الرياضيات كمنهج في التفكير"، فهي بحق نقلت الرياضيات من الجانب الكمي التقني البحت، الى اعطاء هذا الحقل بعده الفلسفي التصوري، والتاريخي

  • العاصمية

    اجل من حقنا ان نفخر بهذ الملك المهندس المغمور، وقد شعرت بذلك وانا أقرأ المقال، فكل الشكر لمن عرفنا به وامتعنا بذلك.
    امثال المؤتمن المغمور لا شك انهم كثيرون في مجالات شتى، لكن العلم سينصفهم ولو بعد حين..
    وبمثلك نفخر استاذ سعد الله لانك قامة في مجالك ولا تفتأ تسخر قلمك ووقتك في خدمة الرياضيات والاعتراف لاهل الفضل فيها بجميل صنيعهم وابداعاتهم.

  • عبد الرشيد سعدي

    أطروحة الدكتوراه للأستاذ يوسف قرقور رحمه الله تعالى تحت إشراف الأستاذ أحمد جبار كان موضوعها كتاب الاستكمال للمؤتمن بن هود.