-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بين ابن باديس والعقبي.. وبرقية تأييد فرنسا

حسن خليفة
  • 2367
  • 1
بين ابن باديس والعقبي.. وبرقية تأييد فرنسا

ثمة نقاط ظل، في بعض منعطفاتنا التاريخية الوطنية في بعض المراحل، وفي المراحل الحسّاسة والمتميزة خاصة، والواجب الأخلاقي والعلمي أن نعمل على بيان تلك النقاط وإظهار وجه الحق والحقيقة فيها. يتصل هذا الأمر بالثورة التحريرية المظفرة، كما يتعلق بمحطات تاريخية أخرى.

من تلك النقاط ما تعلّق بالعلاقة بين الشيخين الكريمين العلامة عبد الحميد ابن باديس والشيخ الطيب العقبي، عليهما من الله تبارك وتعالى شآبيب الرحمة، في شأن برقية طلب العقبي إرسالها قبل الحرب العالمية الثانية بقليل لتأييد الحكومة الفرنسية، ورفض الشيخ ابن باديس والمكتب الإداري للجمعية ذلك.. فما هي القصة؟

تناول هذه المسألة أكثر من كاتب ومهتم: كالدكتور عبد الكريم بوصفصاف، والدكتور أبو القاسم سعد الله وغيرهما، ولعل أكثر من أهتمّ بسرد الوقائع بشكل مؤثر هو الأستاذ حمزة بوكوشة في كتابه “ما رأيتُ وما رويتُ” (ص 95). وقد جاء كلام الأستاذ بوكوشة موضِّحا للمسألة.

اشتدّ طلب الشيخ العقبي لابن باديس إذ قال: “ونحن نريده في هذا الوقت الحرج؛ إذ أن الحرب العالمية الثانية على الأبواب، وجميع الهيئات (كاتحاد الزوايا، وجماعة الميعاد الخيري)، وقد أشار علينا بعض أحبابنا الذين يدافعون عن قضايانا أن نخرج من هذا السكوت لأن سكوتنا يعدّ عداءً”…

عرضوا القضية على ابن باديس وقالوا له: إن سكوت العلماء في هذه الظروف الحرجة مضرٌّ بهم، والأولى أن يصرّحوا بالتضامن مع الحكومة الفرنسية، فقال لهم ابن باديس: ما الذي صنعته هذه الحكومة معنا من إحسان: مدارسنا معطلة، ومعلّموها يحاكَمون محاكمة المجرمين. قالوا له: إن لم يكن تأييد الحكومة، فليكن تضامنا مع الشعب الفرنسي في محنته، فالشعب الفرنسي يجده أنصار جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في الفرنسيين حجة بأيديهم يفنّدون بها مزاعم خصومهم الذين يتهمون الجمعية بالتنكُّر للسلطة الفرنسية وبغض الفرنسيين، فهم يقولون دائما إن حركة العلماء لا تستحق العطف؛ لأن أهدافها ضد السياسة الفرنسية بالجزائر.

فقال ابن باديس: لا أستطيع أن أتحمّل مسؤولية البتّ في هذه المسألة قبل أخذ رأي المجلس الإداري، وذلك تمهيدا للاجتماع العام الذي سيجتمع الأسبوع المقبل، وأعرض عليه هذه القضية.

وقد التقى الشيخ حمزة بوكوشة الشيخ الطيب العقبي بعد رجوعه من الاجتماع بيوم واحد، وكان معهما الشيخ محمد العيد (الشاعر) والشيخ فرحات بن الدرّاجي، فحكي لهم الشيخ العقبي مادار في الاجتماع وقال: متى كان ابن باديس ـ في مواقفه ـ يتوقف على استشارة المجلس الإداري للجمعية؟

(هذه واحدة من الظنون والاتهام هنا كبير وعريض ومؤذ للشيخ ابن باديس).

والمعنى: إن ابن باديس لم يقبل اقتراح العقبي الذي رأى في عرض المسألة على المجلس الإداري تكأة لا غير، والعقبي حريص على تلبية طلب أحباب العلماء من الفرنسيين كالمسيو فيوليت، خاصة وأن لفيوليت منّة في عنق العقبي؛ لأنه عندما اتِّهم العقبي بمقتل كحّول بعث إليه رسالة وهو وزير دولة يبرّئه فيها، ومما قيل:  إن العقبي لمّا وردته الرسالة بعد خروجه من السجن قرأها على جمع حاشد بنادي الترقي، وقال: إذا متُّ فادفنوا رسالة فيوليت معي في قبري – سامحه الله وتجاوز عنا وعنه ـ فعجب عقلاء الناس من وصيَّة العقبي هذه وهو المؤمن الموحِّد، وذكرتهم بمن يوصون أن يُدفن معهم جواب سؤال الملكين في القبر.

ويشير الأستاذ بوكوشة إلى مسار المسألة، بعد ذلك بقوله:

انعقد المجلس الإداري لجمعية العلماء بنادي الترقي وعرض ابن باديس القضية بهدوء وطلب من أعضاء المجلس إبداء رأيهم وكانت الغالبية ضد كتابة البرقية وإرسالها؛ لأن ذلك يُظهر الجمعية في مظهر المتملق، فدافع العقبي عن نظريته وهو أن إرسال البرقية ينفي التهم عن الجمعية ولا يزيدها ذلك إلا قوّة، فعارضه كثيرٌ من الأعضاء، ولم يؤيد نظريته إلا قليل منهم، كل ذلك وابن باديس ساكت.

فقال الشيخ العقبي: هذه دروشة. الحربُ على الأبواب وإن سكوتنا في هذا الوقت الحرج الذي ارتفعت فيه أصوات كل الهيئات بالتأييد يعدّ عداوة سافرة  للحكومة (الفرنسية) ويغري خصومنا بنا فتقضي الحكومة على نوادينا ومدارسنا وجرائدنا، ونفسح المجال لخصومنا وهذا أقلّ شيء ينالنا، وإذا بعثنا برقية تأييد للشعب الفرنسي لا للحكومة الفرنسية، فإننا نجد من هذا الشعب من يقفُ بجانبنا إذا ما تحرَّشت الحكومة بنا ونبقى على اتصال بأمَّتنا ولو في زمن الحرب.

ولما طالت المناقشة دون جدوى طلب الشيخ عبد الحميد ابن باديس التصويت برفع الأيدي فكانت النتيجة أربعة أصوات منهم العقبي قالوا بإرسال البرقية، واثني عشر صوتا قالوا بعدم الإرسال، بل إنّ منهم من قال: إذا وافقت الجمعية على إرسال البرقية فإنني استعفى (استقيل). وهو  الشيخ محمد الطاهر الجيجلي.

ولما انتهى التصويت تكلم ابن باديس فحمد الله تعالى وأثنى عليه وكان مما قال: “لو أيَّدت أغلبيتكم إرسال البرقية ما بقيتم تُرئسوني في مجلسكم هذا.. كيف نكتب برقية ولاءٍ لفرنسا ومدارسُنا مغلقة والتعليم فيها معطّل، وأعضاء جمعيتنا في أعماق السجون: الشيخ عبد العزيز الهاشمي، والشيخ عبد القادر الياجوري، وعلي بن سعد، وعبد الكامل؟ ثم قال: بما أن  أغلبيتكم قررت عدم إرسال البرقية فإني إذا متُّ أموت قرير العين لِما رأيته منكم. فقال العقبي: إن إرسال البرقية ديبلوماسية فنحن نرسلها للشعب الفرنسي لا للحكومة الفرنسية ليعيننا، فسمع من ردّ عليه ولعله ابن باديس: إنه لا فرق بين الشعب الفرنسي والحكومة الفرنسية.

فقال العقبي: إذا لم ترسلوا البرقية فإني أستقيل من الجمعية. فقال له الأعضاء: لا نرسل البرقية ولا نقبل استقالتك. ولما ألحّ وهدد بالاستقالة قال له الشيخ العربي التبسي: نرسل البرقية ويمضيها الشيخ العقبي. فقال له العقبي: يمضيها ابن باديس. فقال ابن باديس: لن أمضيها ولن أرسلها.

المسألة  التي دعت العقبي إلى الاستعفاء هي برقية تملّق للحكومة اقترح إرسالها فقرَّر المجلس الإداري للجمعية بالأغلبية عدم إرسالها. وكيف نرسل برقية ولاء ومدارسُنا معطلة وأعضاء جمعيتنا في السجون؟ ودافع العقبي عن فكرته علانية وخوّف من الحكومة الفرنسية وحذّر، فتعالت الهتافات ضده أن اسكت. وهذه أول مرة قاطع فيها الجمهور العقبي في الجزائر.

وقال ابن باديس: إني أقولها صراحة واجتماعنا هذا لا يخلو من جواسيس رسميين وغير رسميين. إني لن أمضي البرقية ولن أرسلها ولو قطعوا رأسي. وماذا تستطيع فرنسا أن تعمل؟ إن حياتنا حياة مادية وحياة روحية  معنوية، تستطيع فرنسا القضاء على حياتنا المادية بقتلنا وسجننا ونفينا وتشريدنا، ولكنها لن تستطيع القضاء على عقيدتنا وسمعتنا وشرفنا…

هذه المسألة التاريخية فيها الكثير من العبر والعِظات، وفيها أيضا الكثير من التفاصيل عن شخصية العلامة ابن باديس ومواقفه لعل مناسبات أخرى تسمح ببيان ذلك واستنتاج ما يفيد في الاعتبار والانتفاع به.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • KF

    بما انكم تطرقتم للدكتور بوصفصاف رحمة الله عليه اود منكم معرفة ما اورده في هذه المساله ان كان قد تطرق اليها. شكرا لكم.