-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بين القديس أوغسطين والأمير عبد القادر

محمد بوالروايح
  • 2195
  • 10
بين القديس أوغسطين والأمير عبد القادر

احتضنت عنابة “بونة” في الأشهر القليلة الماضية لقاء ثقافيا حول “العالمية والإنسانية لدى القديس أوغسطين والأمير عبد القادر”، وذلك بمبادرة من سفارة إيطاليا بالجزائر والمعهد الثقافي الإيطالي وبالتعاون مع وزارة الثقافة، ويندرج اللقاء سالف الذكر في إطار حوار الثقافات بين دول ضفتي المتوسط.
وقد عزمتُ على المشاركة في هذا اللقاء الحواري المتوسطي الذي يعزز فرص الالتقاء بين الثقافات المتوسطية، ولكن ظروفا قاهرة حالت دون ذلك، ولذلك قررت -تنويرا للرأي العام- أن أكتب عن هذا اللقاء الثقافي بالاحتكام إلى الحقائق التاريخية المتاحة حول مسيرة القديس أوغسطين ومسيرة الأمير عبد القادر الجزائري، وذلك بالانطلاق من سؤال جوهري: هل هناك وجهٌ للمقابلة بين القديس أوغسطين والأمير عبد القادر الجزائري، وأيهما تتجسد في مسيرته النضالية أو الثورية -كما يحلو لبعض المؤرخين تسميتها- الاتزان والهدوء والأبعاد العالمية والإنسانية؟
عند الحديث عن مسيرة القديس أوغسطين فإننا لا نجد أفضل مما دونه هو بنفسه في كتابه “اعترافات” الذي كان موضوعا لدراسات نقدية وتحليلية كثيرة تجمع كلها على الحياة المضطربة التي عاشها القديس أوغسطين وبخاصة في مرحلة الطفولة التي اتسمت بالثوران والعنفوان الذي جعل منه شخصية ثائرة ومتمردة، وهي الحقيقة التي عبَّر عنها القديس أوغسطين نفسه في كتابه “اعترافات” بقوله: “لقد أصبحت أنا نفسي مشكلة كبرى بالنسبة لنفسي”.
لقد نشأ القديس أوغسطين نشأة مزدوجة بين أم مسيحية وأب وثني، وقد ولدت هذه النشأة المزدوجة في نفسه ميولاً وسلوكات غير سوية على حد تعبير زكريا إبراهيم في دراسته وتحليله لكتاب “اعترافات” لأوغسطين، إذ يقول: “.. والظاهر أن هذه النشأة المزدوجة التي كان على أوغسطين منذ صباه أن يتحمّل آثارها، قد ولدت في نفسه ضربا من الصراع العنيف، فكان على الصبي إرضاء أمه التي كانت متدينة كأشد ما يكون التدين، كما كان عليه في الوقت نفسه أن يُشبع طموح أبيه الذي كان لا يأبه إلا بتهيئة مستقبل ناجح لولده الصغير. ولم يلبث أوغسطين أن وجد في صحبة السوء متنفسا واسعا لإشباع شهواته وأهوائه فانقاد لسِحر اللذة، وانتهج طريق الغواية. وقد روى لنا أوغسطين كيف كانت نفسُه بطبيعتها جامحة متمردة، وكيف كان الجانب الحسي الشهواني قويا عنيفا إلى أقصى حد، إلى درجة أن والدته لم تستطع أن تكبح جماح نفسه أو أن تضع حدا لشهواته العارمة”.
في المقابل، تذكر كثيرٌ من الدراسات التاريخية التي تناولت حياة الأمير عبد القادر وبخاصة مرحلة الطفولة أن الشاب قد نشأ نشأة متدينة ومعتدلة وأنها تطوّرت بعد ذلك في صورة صوفية جميلة ينقل لنا الأمير عبد القادر بعض مظاهرها وإيحاءاتها وتجلياتها في كتابه “المواقف”. تجمع الدراسات التاريخية على أن تكوين الأمير عبد القادر الجزائري كان تكوينا دينيا سنيا صوفيا وأنه قد أجاد القرآن الكريم والحديث النبوي وحفظ المتون الفقهية في سن مبكرة، وهذه النشأة الدينية ولدت في نفسه الغيرة على الدين وهو الطابع الذي اتسمت به حياته الثورية فيما بعد، والتي خاض وأفاض فيها كثير من المؤرخين ومنهم هنري تشرشل في كتابه “حياة الأمير” الذي أرى أنه من الكتب المهمة حول الأمير عبد القادر الجديرة بالقراءة، وخاصة أنها تتضمن شهادة مؤرخ غربي يميط اللثام عن كثير من تفاصيل حياة الأمير.
قد يقول قائل: ما جدوى المقابلة بين حياة الطفولة لكل من القديس أوغسطين والأمير عبد القادر فهذه الحياة ليست إلا بداية المسيرة بما لها وما عليها ولا تصحُّ أن تكون -بحكم طبيعتها- معيارا للحكم على الرجلين وأن ما جاء بعدها في مرحلة النضال الثوري هو ما ينبغي التركيز عليه؟ وأجيب على ذلك بأن حياة الإنسان في مرحلة متقدمة ليست إلا صورة مصغرة لحياته الأولى في مرحلة الطفولة، وهو ما تجلى في صورة رجل الدين المتمرد في حالة القديس أوغسطين بناء على اعترافاته الشخصية في كتابه “اعترافات”، والرجل الصوفي الثائر في حالة الأمير عبد القادر.
وأنتقل الآن للحديث عن طبيعة النضال الديني الذي قام به كل من القديس أوغسطين والأمير عبد القادر، فأهم مراحل هذا النضال الديني بالنسبة لأوغسطين كانت في فترته الأسقفية حينما عين أسقفا لمدينة “هيبون” سنة 391م كان خلالها وعلى مدار أربعين سنة نموذجا للراعي الصالح إلى أن وافته المنية سنة 430م بعد حياة ثورية تحلى فيها بالنفس الطويل وميزها على وجه الخصوص نضاله ودفاعه عن العقيدة المسيحية ضد البدع الغريبة والهرطقات، وخاصة ضد العقائد “الآريوسية” المخالفة لتعاليم الكنيسة وضد “المانويين”. وقد اتسم نضاله الديني كما ذكر زكريا إبراهيم بأن أوغسطين: “يقدم لنا محاولة فلسفية أصيلة من أجل تعقل الإيمان المسيحي التي كانت منطلقا للفكر الكنسي الذي جاء بعده والذي تجلى على سبيل المثال في الفكر الديني الذي تبناه القديس “أنسلم” الذي تنسب إليه مقولة: “إن العقل ينشد الإيمان، والإيمان –بدوره – ينشد العقل”.
أما الأمير عبد القادر فلم يُعرف عنه أنه هاجم جماعة دينية بعينها كما فعل أوغسطين، بل انتهج منهجا عاما في الرد على أهل الأهواء، ويتجلى هذا المنهج في كتابه: “المقراض الحاد لقطع لسان منتقض دين الإسلام بالباطل والإلحاد”، كما تتجلى في منهجه النزعة الدينية السياسية لأنه كان رجل دولة بامتياز، ومن ذلك رسالته: “ذكرى العاقل وتنبيه الغافل” التي وجَّهها إلى المجمع الآسيوي بطلب من الجمعية بعد أن منحه المجمع العلمي الفرنسي العضوية فيه، وقد نقلها إلى العربية القنصل الفرنسي بدمشق آنذاك “غوستاف ليغا”. كما عُرف عن الأمير عبد القادر الجزائري أنه قد سلك مسلكا صوفيا يركز على تزكية النفس والرقي بها في مدارج العابدين والسالكين.
كان القديس أوغسطين –كما تذكر المصادر التاريخية –خادما للكنيسة المسيحية الرسمية بروما ومواليا للإمبراطور الروماني قسطنطين، وقد أدى دورا كبيرا في مناهضة ومحاربة أتباع المذهب الدوناتي الذين قادوا حركة تمرُّد كبيرة ضد الكنيسة المسيحية والسلطة الرومانية القائمة، فكان أوغسطين بذلك مدافعا شرسا ومنافحا قويا عن النظام الإمبراطوري اللاتيني، وقد تميَّز نضاله الثوري في ذلك بالشدة والحدَّة وعدم التسامح مع المنشقين والمناوئين دفاعا عن القيم الكنسية الأصيلة وقيم المواطنة. ومن مظاهر النضال الثوري لأوغسطين دفاعه عن “هيبون” ضد الغزو الوندالي إلى أن سقط شهيدا –كما تذكر الوثائق الكنسية- عام 420م.
أما عن النضال الثوري للأمير عبد القادر فيميزه -خلافا للنضال الثوري الذي قام به أوغسطين- بأنه نضال ضد السلطة السياسية القائمة المتمثلة في السلطة الفرنسية الاستعمارية من جهة وضد المناوئين لعقيدة الأمة الجزائرية المسلمة وتوجّهاتها، وقد استمر الأمير عبد القادر في هذا النضال الثوري القومي إلى غاية توقيع معاهدة “تافنا” التي يراها بعض المؤرخين شكلا من أشكال الجنوح إلى السلم من جانب الأمير، ويراها مؤرخون آخرون بأنها معاهدة استسلام، وهو ما نرفضه رفضا قاطعا لأنه مرادفٌ للخيانة العظمى وهذه لا يمكن أن تصدر عن زعيم قومي وقائد حربي من شاكلة الأمير عبد القادر. وقد توج النضال الثوري للأمير بتأسيس الدولة الجزائرية الحديثة وهو الإنجاز السياسي المؤسسي الذي عجز عنه القديس أوغسطين الذي لا يذكر إنجازه النضالي في هذا الجانب إلا منسوبا للكنيسة الكاثوليكية.
أما عن الأبعاد الإنسانية والعالمية في سيرة أوغسطين فيمكن الاستدلال عليها بالتوجهات العالمية للكنيسة الكاثوليكية التي تعتبر نفسها أم الكنائس المسيحية وأنها وريثة تعاليم السيد المسيح التي جاءت لخدمة النوع الإنساني، ومن ثم فهي تؤدي دورها الديني اعتمادا واعتدادا بهذا المنحى الكنسي الإنساني والعالمي. أما عن الأبعاد الإنسانية والعالمية في سيرة الأمير عبد القادر فهي أكثر من أن تعدّ وتحصى ويكفي للدلالة على ذلك موقفه الإنساني المتمثل في إنقاذ عدد كبير من المسيحيين المحاصَرين والعالقين في أثناء حرب دمشق الشهيرة بين المسيحيين والدروز عام 1860م.

تجمع الدراسات التاريخية على أن تكوين الأمير عبد القادر الجزائري كان تكوينا دينيا سنيا صوفيا وأنه قد أجاد القرآن الكريم والحديث النبوي وحفظ المتون الفقهية في سن مبكرة، وهذه النشأة الدينية ولدت في نفسه الغيرة على الدين وهو الطابع الذي اتسمت به حياته الثورية فيما بعد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
10
  • يوسف ادريس

    اذا نطق الباحث في التاريخ الديني فما على غيره الا حسن الاستماع انه الدكتور محمد بوروايح

  • الشيخ عقبة

    في زوج عظماء وأملاح ( من فاتك بليلة فاتك بعظمة )

  • الواضح الصريح

    ( على حد تعبير زكريا إبراهيم ) القط البراني الهرم يقيم النمر الجزائري الأصيل ، مقارنة أوغوسطس العظيم بالأمير عبد القادر بعيد بعد السماء على الأرض ، واش جب الجاب .

  • كسيلة

    الأخ المحترم يفسر الأمور بطريقة بعيدة كل البعد عن الحقيقة وبكثير من الانتقائية في تحليله للمواضيع،صحيح أن أوغيسطينيوس في بداية حياته كان شابا ماجنا متهتكا إلا أنه تاب بعد ذلك وأصبح متدينا وزاهدا متقشفا، ومعظم الدراسات تؤكد انه كان ثاقب الذهن، واسع الفكر، غزير العلم وبالتالي يعد أكبر مثقف أمازيغي عبقري في التاريخ القديم، لكن الاخ المحترم يرى غير ذلك ...هل لان أوغيسطينيوس مسيحي ??

  • صالح بوقدير

    لعل المكاسب التي حققها الطرفين من المعاهدة هي التي تحدد ترحيح الجنوح إلى السلم أو الاستسلام

  • زيدان

    مع احترامي الشديد للدكتور بو الروايح ، ادعوه لمراجعة تاريخ و سيرة السفاح اوغسطين على ضوء المراجع الانجلو سكسونية ، التي تؤكد على ان هذا الشخص كان ابعد ما يكون عن التسامح و الانسانسة حسث مارس اشد انواع التنكيل و المجازر في حق الاريسيين الوحدين و ذلك مباشرة بعد زيارته لروما و ادائه فروض الطاعة للبابا و الامبراطور الروماني حيث كلف بمهمة قذرة و هي القضاء على الاموحدين و نشر عقيدة التثليث و كان اول الشهداء الذين قضوا على يديه في منطقة سوق اهراس و اكبر المذابح التي قام بها جرت في بغاي بخنشلة ، حيث كان يعرف انذاك بين سكان المنطقة الفنيقيين المسيحيين الموحدين باسم "الخائن".

  • مجمد

    يجب التنويه إلى أن الأمير اتخذ من دين الأمة الجزائرية وسيلة لجمع شتات المجتمع للدفاع عن كيانه ضد المستعمر الوافد بجنوده ضد الحرية وكرامة أهل البلد بينما كان القديس أوجستين يدافع عن كيان الأمبراطورية الرومانية المستعمرة للجزائر والمستعبدة لشعبها.أما ما تريد بعض الأوساط من طعن في قيمة الأمير عبد القادر لما عقد معاهدة استسلامه فإنها كانت بسبب خيانة من امتنعوا عن مؤازرته في مواصلة الدفاع عن الوطن ضد الجيوش الفرنسية المدعمة من قبل بعض الأوساط التي فضلت الوقوف إلى جانب الأجنبي الذي وعدها بالرخاء والبذخ زيادة على اختفاء المساندة من طرف المغرب.لا تجب المقارنة بين الأبطال طواعية والانتهازيين في كل زمان

  • عيسى اللموشي

    ونسبه الأمير عبد القادر هو كالتالي: عبد القادر بن محي الدين بن عبد المالك الجزائري بن قادة بن مختار بن سيدي عبد القوي دفين تفرسيت، ضريح جده ما زال في منطقة تفرسيت ومعروف عند الأهالي هناك.

  • نسومر الأوراس

    إنما الأمور بخواتمها ، أوغستين مات مدافعا عن هيبون من غزو الوندال أما الأمير عبد القادر مات متصالحا مع فرنسا بعد شرعنته للأستعمار في معاهدة التافنة. وهذا هو الفرق الذي رفع الأول ووضع الثاني .

  • TABTAB

    لما تغيب السباع ترقص الضباع