-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بين مبدئية الشّورى وآلية الديمقراطية

ناصر حمدادوش
  • 438
  • 7
بين مبدئية الشّورى وآلية الديمقراطية
ح.م

سيبقى الإسلام بمعيارية نصوصه من القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة الصحيحة الإطارَ المرجعي والمصدر المعرفي الناظم والمساير لمسيرة الإنسانية، بعيدًا عن أيِّ انغلاقٍ في أيِّ بُعدٍ زمانيٍّ أو مكانيٍّ ضيّق، ومهما تطوّر الإنتاج الفكري للعقل البشري فإنّه كما قال الإمام الشهيد حسن البنّا عليه رحمة الله: “لن تصطدم قاعدةٌ شرعيةٌ صحيحة بحقيقةٍ علميةٍ ثابتة”، ومنها: المواءمة بين الفقه السياسي الإسلامي وبين الاجتهاد السياسي البشري. وستبقى الشورى والديمقراطية من المفاهيم السياسية الأساسية المثيرة للجدل في الحاجة إليهما، وفي العلاقة بينهما في الفكر الإسلامي المعاصر.

وبالرغم من تجاوز الحساسية من الديمقراطية كمصطلحٍ غربي بأسُسٍ وخلفياتٍ فلسفية، نتيجة الحالة الصّدامية السائدة سابقًا بين الإسلام والغرب، والمحاولات الفاشلة في نمْذَجة وعولمة الحياة الغربية ومحاولات فرضها بالقوة، إلا أنّ حالات الخلط بين مفهومي الشورى والديمقراطية أو محاولات اصطناع العداوة بينهما، والتركيز على الفروق الجوهرية لكليهما يجعل من الشورى مبداً هلاميًّا عامًّا يفتقر إلى الإجراءات العملية المجسِّدة له حسب تطوُّر المجتمعات والبيئات المختلفة، ويجعل من الديمقراطية آليةً جافّةً ومجرّدةً من أبعادها الأخلاقية والقيمية المنسجمة مع خصوصية أيّ اجتماعٍ بشريّ.

وفي اعتقادنا، فإنّ الديمقراطية هي أفضلُ صيغةٍ إجرائيةٍ لتطبيق القيم السياسية الإسلامية ذات الصّلة ببناء الدولة والتداول على السّلطة، لأنّها تطبيقٌ للشقِّ الدستوري من الشريعة الإسلامية في العصر الحديث، وهي معجزةٌ من المعجزات الأخلاقية للإسلام، عندما تتلاقى قيمُه السياسية العليا مع القيم الإنسانية السّامية والمجرّدة. ولطالما بقي سؤالُ شرعية السّلطة من أصعب وأهمّ الأسئلة السياسية في حياة أيّ اجتماعٍ بشري، ويمكن اختزال أنماط الوصول إلى الحكم غالبًا في ثلاثة أنواعٍ من الأنظمة وهي:

 الحُكم القهري العسكري: الذي يَعتبِر القوّة طريقًا للحقّ في الحكم ولو على حساب المبدأ الأخلاقي.

 الحُكم الوراثي الملكي والاستسلامي للعُرف المسيطر في المجتمع.

الحُكم بالتراضي والتعاقد: الذي يتأسّس على الاختيار الحرّ والتداول السّلمي على السّلطة.

وهذا النّمط الأخير هو الذي تأسّس عليه الفقهُ السّياسي الإسلامي ابتداءً، قبل أن تعبث به أهواءُ الملوك والأمراء، وتنحرف به تطويعات فقهاء السّلطان وتأويلاتهم، فقد أثبت الله تعالى صفةً سياسيةً لازمةً للمؤمنين، وهي الشّورى، وذكرها بين ركنيْن تعبّدييْن، وهما “الصلاة والزكاة”، في قوله تعالى: “وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ، وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ” (الشورى: 38)، للعلاقة التكاملية بين أحكام العبادة ومبادئ السّياسة، والتي تعني في ترجمتها السّياسية المعاصرة اختيار الشّعب، إذ لا شرعية لأيِّ سلطةٍ دون الإرادة الحقيقيةٍ للأمّة، عن طريق الرّضا في التعاقد بين الحاكم والمحكوم، والحرّية في اختيار وليّ الأمر، والقدرة على محاسبته، والإمْكان على عزله، لأنّ الشورى هي مصدر الشّرعية السياسية، أي مصدر شرعية الحاكم في ممارسة السلطة، وقاعدته في مشروعية أدائه في الحكم.

فالحاكم المسلم يستمد شرعيته السّياسية من “إرادة الأمّة” حتى ولو كان محمّدًا صلى الله عليه وسلّم في شخصيته السياسية كحاكم وليس في شخصيته الدعوية كرسولٍ مبلّغ وهو ما أكّده الفقهُ السياسي القرآني بوجوب حرصه على اجتماع القلوب عليه بالرّضا، وفي التأكيد على مشاورتهم  ولو مع أخطائهم  في صناعة القرار واتخاذه، في قوله تعالى: “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ..” (آل عمران: 159)، وأنّ كونه مُسدَّدًا بالوحي لا يُعفيه من مسؤولية التدبير السياسي والرّجوع إليهم في كلِّ ما يهمّهم من أمر. وهو ما ترجمه في تجربته العملية وتطبيقاته السياسية الواقعية، فترك اختيارَ وبيعةَ خليفتِه من بعده مثلاً لإرادة الأمة لا إلى تعيينه وتنصيصه.

ولقد ذهبت خياراتٌ فقهية بعيدًا في تحديد المعنيين بالشورى، واختزلها البعضُ في الخاصّة (أهل الحلّ والعقد) دون العامّة من النّاس، من غير مسوّغٍ عقليٍّ أو دليلٍ شرعيٍّ، إذ أنّ كلّ مُكلّفٍ بالغٍ عاقلٍ هو أهلٌ للشورى، لأنّ الآية: “وشاورهم في الأمر” عامّةٌ وليست خاصّة، وهي تشمل كلّ مَن يعنيه الأمر في الحُكم وإدارة الشأن العام، وقد كان صلّى الله عليه وسلّم يقول: “أشيروا عليَّ أيها النّاس”، كلّ الناس بدون استثناء، ولم يجعل فئةً مخصوصيةً وصيّةً على غيرها في تقرير مصيرها أو اتخاذ القرار في مكانها.

والحُكم بالإكراهِ جريمةٌ وكبيرة، وقد جاء في الحديث الشّريف: “ثلاثةٌ لا تُرفع صلاتُهم فوق رؤوسهم شِبرًا..”، وفي رواية: “أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة”، وفي روايةٍ: “لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة”، ومنهم: “.. وإمامُ قومٍ وهم له كارهون”، وأخطرُها: الإمامة في الحُكم، وليس مجردَ الإمامةِ في الصّلاة، لأنّ الحكم الجبري لا يجسّد وحدة الإرادة بين الحاكم والمحكوم، والتي هي أهمّ مصدرٍ من مصادر قوّة الدولة، وخاصةً أمام أيّ تدخلٍ أو ضغطٍ خارجي، أو أمام أيّ توترٍ أو انفلاتٍ داخلي.

لقد أصبح الاحتكام إلى الديمقراطية كآليةٍ معاصرةٍ لمعرفة إرادة الأمّة وقياسها من المعلوم من الدّنيا بالضّرورة، وأنّ هذه النظرة التوفيقية بين مبدئية الشورى وآلية الديمقراطية هي من الاجتهاد الفكري والإبداع المعرفي والتجديد السياسي المعاصر الذي يجب أن نستند إليه، وخاصّة بعد هذا الانتقال من منطق الإطلاقية اللاغية للآخر إلى منطق النّسبية القابلة له، وخاصّة في المجتمع المسلم الواحد، الذي يجب أن لا يدّعي فيه أحدٌ احتكار الحقّ والحقيقة، بل يجب الاحتكام إلى الأغلبية، والقبول بنتائج العملية الشّورية (الانتخابية)، إذ لا وصاية على الشّعب ولا نيابة عنه.

لقد اتفق الصّحابة رضوان الله عليهم على مبدئية الشورى كصفةٍ أخلاقية متأصّلة، ولكنهم اختلفوا في آلية تجسيدها كسلوكٍ عمليٍّ وإجرائي، وخاصّة في آلية اختيار وليّ الأمر كحاكم، وهو ما جعل آلية اختيار الخلفاء الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم تختلف من خليفةٍ إلى آخر، لأنها مسألةٌ اجتهدايةٌ تقديرية وليست مسألةً توقيفيةً جادمة.

إنّ الاحتكام إلى رأي الأغلبية هو نوعٌ من الانتقال من قيادة الفرد غير المعصوم إلى قيادة الأمّة المعصومة، تناسقًا وتساوُقًا مع الحديث النبوي الشّريف الذي رواه الإمام الترمذي في سننه: “إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ.”. و”عصمة الأمّة” في الإسلام عند أهل السُّنّة أصحّ وأقربُ إلى النّصّ من “عصمة الأئمة” عند الشيعة، وأحقّ وأصدق من “عصمة البابا” في المسيحية. وهو ما جعل لرأي الأغلبية قدسيةً وحرمة، لا يجوز الخروج عنها ولا يُقبل المساس بها. وكما لا يجوز الخروج على الحاكم الشّرعي بالسّلاح، فإنّه لا يجوز  كذلك خروج الحاكم عن الأمة بمصادرة إرادتها الشّعبية، وهو ما يستدعي التشديد والوعيد لمن يجرّؤ على ذلك، فجاء في الحديث الشّريف: “مَن أتاكم وأمرُكم جميعٌ على رجلٍ واحدٍ، يريد أن يشقّ عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه.”.

 الحاكم المسلم يستمد شرعيته السّياسية من “إرادة الأمّة”، حتى ولو كان محمّدًا صلى الله عليه وسلّم في شخصيته السياسية كحاكم، وليس في شخصيته الدعوية كرسولٍ مبلّغ، وهو ما أكّده الفقهُ السياسي القرآني بوجوب حرصه على اجتماع القلوب عليه بالرّضا، وفي التأكيد على مشاورتهم ولو مع أخطائهم في صناعة القرار.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
7
  • **عبدو**

    >> بوزيان القلعي
    "فلما اختلط ابو ذر بفقراء أهل الشام وأخذ يحدثم بما عرف عنه من نزعة اشتراكية "
    عن اي نزعة اشتراكية تتحدث ، الاشتراكية مفهوم فلسفي نشأ في القرن العشرين و بعد 14 قرنا و يجب ان تعرف ما هي الاشتراكية قبل التحدث عن ابي ذر

  • واحد برك

    هداك الله يا كاتب المقال تلبس وتدلس على العامة وتريد اقناعهم بان الانتخابات الديمقراطية هي نفسها الشورى في الاسلام والله المستعان على ما تصفون. اكتفي بهذا الأثر الصحيح فقد صح أن عمر أنكر على من زعم أن البيعة تنعقد بواحد من غير مشاورة الجماعة وكان بلغه هذا القول أثناء حجه؛ فعزم على بيان حقيقة أمر المبايعة وما يشترط فيها من الشورى، على جماهير الحجاج… ثم أحجم على ذلك لما ذُكر بأن الموسم يجمع عامة الناس وأخلاطهم، ممن لا يفهمون المقال فيطيرو به كل مطار، فأجله إلى المدينة وألقاه على أهل العلم والرأي. ثم ان المعلقين ممن سبقوني وضحوا فساد قولك من أبواب أخرى والحمد لله. عسى الله ان يهديك ويهدينا.

  • بوزيان القلعي

    من يتأمل في وضع أهل الشام ( حينذاك) لوجدناهم لا يعرفون ( الشورى) ولا يؤمنون بوجودها وقد اشتهروا في التاريخ بأنهم كانوا من أطوع القوم لولي أمرهم كائنا من كان ومعنى هذا أن الشورى انقلبت عندهم إلى طاعة
    يقول المسعودي : أن أهل الشام بلغوا في طاعتهم أمر معاوية لدرجة أنهم صلوا خلفه صلاة الجمعة يوم الأربعاء حيث اقتضت مشيئة معاوية ذلك عند مسيرة إلى صفين وكان معاوية قد عود أهل الشام على طاعة السلطان ورأينا في أيام عثمان يمنع كل متحدث لبق من الاختلاط بأهل الشام ، فلما اختلط ابو ذر بفقراء أهل الشام وأخذ يحدثم بما عرف عنه من نزعة اشتراكية كتب معاوية الى عثمان يقول له
    إن أبا ذر يريد أن يفسد أهل الشام

  • قويدر الزدام

    إن العامة لم تبايعني لسلطان غالب ولا لغرض حاضر .....أما الخلاصة فقد بايعه معظمهم ولم يجبر أحدا

  • قويدر الزدام

    كالعادة ما تعرفوش تعلقوا على القضايا الكبرى كما تناولها مالك بن نبي في كتابه لفكرة الديمقراطية وتطبيقها في العالم الإسلامي و الأستاذ ناصر تطرق للديمقراطية في الإسلام و الديمقراطية بمفهومها الغربي وهو (حكم الشعب ) ويتعلق الأمر باستيراد الدساتير والقوانين التي صنعتها أفكار وثقافة وديمقراطية شعب آخر والتي قد لا تتفق مع أفكار وثقافة الشعوب الإسلاميةالتي تحكم بسياسة السيف والنطع ....
    عندما تولى علي بن ابي طالب خلافة المسلمين بعد عثمان اتضحت في سيرته معالم الديمقراطية وهو في الواقع آخر حاكم في تاريخ الاسلام اتفقت العامة على بيعته طوعا واختيارا وقد أشار هو الى ذلك حيث قال :

  • عبد النور

    الشورى تكون في أعلم الناس وأفضلهم أخلاقا وحكمة.
    ما أهلك هذه الأمة إلا كثرة الحديث وقلة القرآن.
    - عن إسماعيل بن عبيد الله عن السائب بن يزيد : سمع عمر يقول لأبي هريرة : لتتركن الحديث عن رسول الله ﷺ أو لألحقنك بأرض دوس ! وقال لكعب : لتتركن الحديث ، أو لألحقنك بأرض القردة.

    عن قرظة بن كعب ، قال : خرجنا نريد العراق فمشى معنا عمر بن الخطاب إلى صرار ، فتوضأ ، ثم قال : " أتدرون لم مشيت معكم ؟ " قالوا : نعم، نحن أصحاب رسول الله ﷺ مشيت معنا، قال : " إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تبدونهم بالأحاديث فيشغلونكم، جردوا القرآن، وأقلوا الرواية عن رسول الله ﷺ وامضوا وأنا شريككم"
    -

  • .........

    و حسبنا الله و نعم الوكيل